الحمد لله.
أولا:
العرش ليس هو المكان الذي تصدر منه الأوامر، وإنما العرش هو سرير المَلِك، جل جلاله ، وهو سقف المخلوقات، والله تعالى فوق عرشه ، عالٍ عليه .
ومن الله وحده يصدر أمر الله لعباده ، ومنه يكون تدبيره لأمرهم كله ، وشأن الملك بأجمعه . كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ يونس/3 .
فالضمير في قوله (يدبر) راجع إلى الله ، وليس إلى العرش.
وبهذا يتضح خطؤك الثاني ، وهو ظنك أن العرش يحتوي على أمر الله ، فهذا باطل قطعا، وأمر الله لا يحويه مخلوق ، ولا يصدر عن مخلوق .
وليس للعرش مدخل ، بوجه ما ، في صدور الأمر ، وهذا واضح بديهي قطعي ، وليس له مدخل أيضا ، بوجه ما في نقل أمر الله كما يحصل من الملَك.
وأما خطؤك الثالث : فقولك : إن الاستواء على العرش ، يكون معناه : أن أمر الله صار فوق العرش .
والصواب ، والحق الذي لا ريب فيه : أن الله تعالى فوق العرش، والأمر يصدر من الله تعالى، لا علاقة للعرش بذلك مطلقا ، ولا تعلق للعرش بالأمر ، كما سبق تقريره .
والاستواء معناه: العلو والارتفاع، كما فسره السلف بذلك.
قال البخاري في صحيحه: " باب : وكان عرشه على الماء ، وهو رب العرش العظيم.
قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع ... وقال مجاهد: استوى: علا على العرش".
وقال البغوي رحمه الله: " (ثم استوى إلى السماء): قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء" انتهى من "تفسير البغوي" (1/ 78)، ونقله الحافظ في "الفتح" (13/ 417)، وقال: "وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه".
والقرآن لا يفسر بالرأي ، والكلام في الدين يحتاج إلى معرفة علوم عدة ، منها اللغة، بمعانيها ونحوها وصرفها، والوقوف على كلام السلف، وغير ذلك.
ثانيا:
وصفُ العرش بأنه عظيم ومجيد وكريم، ووصف القرآن بذلك، لا يعني أنها متماثلان أو متقاربان، فالعرش مخلوق ، وكلام الله غير مخلوق، ولا مقارنة بين مخلوق محدث ، وصفة من صفات الله تعالى.
واعلم أن الله وصف بذلك غير العرش ، فقد وصف جبريل عليه السلام بأنه كريم إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ التكوير/19، ووصف عرش بلقيس بأنه عظيم وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ النمل/23، ووصف يوم القيامة بذلك : عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ النبأ/1، 2 .
والصفة تناسب الموصوف ، وتلائمه ؛ فصفة المخلوق : مخلوقة ، تناسبه .
وليس كذلك صفة الخالق ، ولا هي تشبه صفة المخلوق ، إلا في الأسماء فقط .
والحاصل :
أنك قد بنيت ما ذكرت على أوهام لا حقيقة لها، ولم تسلك الطريق الصحيح لفهم كلام الله تعالى، ولم تنتبه إلى أن أمور الاعتقاد يجب فيها التثبت والتحري ، واتباع منهج السلف ، وإلا كان الانحراف والضلال ، كما حصل لكثير من الفرق التي أعملت عقولها في فهم النصوص بلا أدوات من العلم تعصم من الزلل.
والحذر الحذر أن تنشر بين الناس شيئا يكون إثمه ووباله عليك، فإن مَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا مسلم (4831).
والنصيحة الخالصة لك :
أن تدع باب التأليف والتصنيف الآن جانبا ، وتقبل على طلب العلم من بابه ، فتتعلم لغة العرب وعلومها ، جهدك ، وتتعلم كتاب الله وتفسيره ، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ووتتفقه فيه. وتدرس أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وما خالفهم فيه أهل البدع والكلام .
ثم متى أحكمت باب الطلب ، وتأهلت ، وقطعت الشوط اللائق بمثلك ، ووجدت بعد ذلك أن عندك من العلم ما يعينك على التصنيف النافع ، وعندك من القدرة والتأهل ما تحتاجه لذلك : فنعم ، ساعتها اجتهد في التصنيف ، لكن بعد التحصيل .
والحذر الحذر من التصنيف قبل أن تتأهل له ؛ فإن من تعجل الشيء قبل أوانه ، عوقب بحرمانه ، كما قال أهل العلم .
وإذا كتبت كتابا أو مقالا، فاعرضه على أهل العلم أولا، ليتبين لك صوابه من خطئه.
وانظر: جواب السؤال رقم : (287146) ، ورقم : (126198) ، ورقم : (47048) ، ورقم : (124469) .
والله أعلم.