في حواري مع نصارى أجانب استفسر أحدهم عن الآية (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) سورة آل عمران/ 144، فقال لي النصراني : إن هذه الآية تقول: إن الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم قد ماتوا وهذا يناقض الآيات الأخرى الدالة على عدم موته، فما هو الصواب؟ وما معنى (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)؟
الحمد لله.
أولًا :
ننبه الأخ السائل إلى نصيحة مهمة ، وهي : عدم الدخول في معترك الشبهات والردود عليها إلا بعد أن تتقوى معرفتك بأحكام الإسلام وشرائعه ، ويتقوى إيمانك ويقينك ، وليس هذا من باب الاستحباب بل هو واجب في حقك ، وفي حق كل من يدخل في معترك الشبهات والردود على أهل البدع والضلال والأديان المحرَّفة ، وفي هذا الأمر عدة فوائد مهمة :
1- الحفاظ على دين الله وشريعته من المتحمسين الذين ليس عندهم زاد علمي ، فترى الشبهة التي يطرحهما أعداء الدين غير التي يردون عليها ، وترى – أحياناً أخرى – الرد ضعيفاً يقوِّي الباطل ويُضعف الحق .
2- الحفاظ على المسلمين المتحمسين لتلك الردود من الانجراف وراء الشبهة وأهلها ، فكثير من الداخلين في هذا المعترك يدخلون بزاد قليل ، فتخطف الشبهةُ قلوبَهم ، ولا يجد لها جواباً عنده ، فيحار ، ويتشكك ، كما أن كثرة النظر في الشبهات تُضعف القلب .
قال ابن القيم رحمه الله :
وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيرادٍ - " لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة ، فيتشربها ، فلا ينضح إلا بها ، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ، ولا تستقر فيها ، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته ، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقرا للشبهات " أو كما قال .
فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك .
انتهى من" مفتاح دار السعادة " ( 1 / 140) .
وانظر جواب السؤال رقم : (97726)، ففيه نصائح مهمة .
ثانيًا :
قوله تعالى : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتُلِ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ آل عمران/ 144 .
"معنى الآية: أن الله أخبرهم أن محمدًا كبعض رسله المتقدمين في الرسالة والدعاء ، الذين قد مضوا وخلوا ، فلما حضرت آجالهم ماتوا، فمحمد صلى الله عليه وسلم مثلهم؛ ميت عند انقضاء أجله .
وهذا إنما هو معاتبة من الله للمؤمنين على ما كان منهم، من الهلع والجزع، حين قيل في أُحُدٍ: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قتل ، ومقبحًا لهم انهزام من انهزم منهم حين سمع ذلك "، انتهى من"الهداية" مكي ابن أبي طالب(2/ 1139).
قال "الرازي" في "مفاتيح الغيب" (9/ 376) : " ومعنى الآية وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل؛ فسيخلو كما خلوا، وكما أن أتباعهم بقُوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة، لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا".
وانظر جواب السؤال رقم : (125877).
ثالثًا :
وقد قال سبحانه في المسيح عيسى : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ المائدة/ 75.
ومعنى الآية : " ليس عيسى أول رسول مبعوث إلى الناس فيعجبوا من ذلك، بل قد خلت من قبله الرسل إلى الخلق، فهو واحد منهم، فهو مثل قوله في محمد ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل ) الأحقاف/ 9 ، ومثل قوله: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل ) آل عمران/ 144 " انتهى من"الهداية" مكي ابن أبي طالب (2/ 1815).
رابعًا :
عيسى عليه السلام سيموت بنص القرآن ، كما قال سبحانه : ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) النساء/ 159 .
قال " ابن كثير " في " تفسيره " (2/ 454) : " ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ القولُ الأولُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَّا آمَنَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ الْآيِ، فِي تَقْرِيرِ بُطْلَانِ مَا ادَّعَتْهُ الْيَهُودُ مِنْ قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ، وَتَسْلِيمِ مَنْ سَلَّمَ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى الْجَهَلَةِ ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَقَتَلُوا الشَّبِيهَ وَهُمْ لَا يَتَبَيَّنُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ بَاقٍ حَيٌّ، وَإِنَّهُ سَيَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ -الَّتِي سَنُورِدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا- فَيَقْتُلُ مَسِيحَ الضَّلَالَةِ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ -يَعْنِي: لَا يَقْبَلُهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، بَلْ لَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ.
فَأَخْبَرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ حِينَئِذٍ، وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، الَّذِي زَعَمَ الْيَهُودُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ النَّصَارَى أَنَّهُ قُتِلَ وَصُلِبَ.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا أَيْ: بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي شَاهَدَهَا مِنْهُمْ قَبْلَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ " انتهى .
وقد ورد التصريح بوفاته في حديث أبي هريرة : " ثُمَّ يُتَوَفَّى، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ "، رواه "أحمد" (9270)، وأبو داود: (4237)، وهذا يتفق مع الآية الكريمة ، وأن أحدًا لن يخلد في هذه الدنيا ، بل كل حي سيموت ، ويبقى الحي الذي لا يموت .
فإذا تبين أن عيسى عليه السلام قد رفعه الله إليه، وهو حي عنده في السماء، حتى ينزل في آخر الزمان، فيمكث في الأرض ما شاء الله له أن يمكث، ثم يموت؛ فيكون قوله تعالى: ( قد خلت ): خرج مخرج الغالب ؛ فإن سائر الرسل ماتوا ، وعيسى يموت آخر الزمان ، فحكمه حكمهم، فالحكم يعمه ، كما يعم غيره من الأنبياء والرسل .
وقد يُقال : لما كان حكمه في المآل كحكم سائر الرسل لم يُحتج إلى إفراده بحكم خاص .
والله أعلم.