في الحديث:(أنَّ اللهَ خلق الخلقَ في ظُلمةٍ فألقى عليهم من نورِه، فمن أصابه من ذلك النُّورِ اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ، فلذلك أقولُ: جفَّ القلمُ عن علمِ اللهِ) فسؤالي هو: ما المقصود من (فألقى عليهم من نوره)، أليس هو النور المخلوق؟ لأنه لا يمكن أن يكون هذا النور هو من صفة الله الغير مخلوقة؛ لأن الله منزه عن أن يُلقى نوره التي هي صفته، أليس كلامي صحيحا ؟ سألت هذا السؤال؛ لأني قرأت في إحدى المواقع الموثوقة أنه "ممكن أن تكون من هذة بيانية، وإما تبعيضية يعني ألقى عليهم بعض نوره "، فاستشكل علي الأمر فتساءلت كيف تكون (من) تبعيضية؟ لأنه لا يمكن أن صفة الله تعالى التي هي نوره تُلقى على الخَلق حين خلقهم الله ؟ فهل فهمي خاطئ من قولهم من للتبعيض أم ماذا ؟
الحمد لله.
أولا:
الحديث رواه أحمد (6644)، والترمذي (2642)، وابنُ حبان (6169) عن عبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ .
والحديث حسنه الترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".
وهذا النور صفته تعالى، ولا يلزم من ذلك محذور كمفارقة صفته له، فهذه الشمس لها نور قائم بها، ومع ذلك تنوّر الأرض فلا يفارقها النور ليقوم بالأرض!، ولا يقول عاقل: إن الشمس أو القمر قد حلا فينا، أو إن صفة الشمس أو القمر قد حلت فينا، فالصفة قائمة بالموصوف، ولكن هناك أثر الصفة وما ينتج عنها.
فسواء قيل إن "من" بيانية أو تبعيضية، فإن إلقاء النور، لا يعني انفصال الصفة، وإنما المراد حصول التنوير.
قال ابن القيم رحمه الله:
" النص قد ورد بتسمية الرب نورا، وبأن له نورا مضافا إليه، وبأنه نور السماوات والأرض، وبأن حجابه نور. هذه أربعة أنواع.
فالأول يقال عليه سبحانه بالإطلاق، فإنه النور الهادي، والثاني يضاف إليه كما يضاف إليه حياته وسمعه وبصره وعزته وقدرته وعلمه، وتارة يضاف إلى وجهه، وتارة يضاف إلى ذاته.
فالأول: إضافته كقوله: " أعوذ بنور وجهك " وقوله: " نور السماوات والأرض من نور وجهه ".
والثاني: إضافته إلى ذاته كقوله وأشرقت الأرض بنور ربها [الزمر: 69] ، وقول ابن عباس: " ذلك نوره الذي إذا تجلى به "، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره " الحديث.
الثالث وهو إضافة نوره إلى السماوات والأرض، كقوله: الله نور السماوات والأرض [النور: 35].
والرابع كقوله: " حجابه النور " ؛ فهذا النور المضاف إليه يجيء على أحد الوجوه الأربعة.". انتهى، من "مختصر الصواعق" (423-424).
فجعل رحمه الله النور الوارد في حديث عبد الله بن عمرو نور الصفة التي تضاف إليه كحياته وعلمه وسمعه وبصره.
ثانيا:
النور من صفاته تعالى العظيمة، وستشرق الأرض بنوره يوم القيامة، كما قال: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ الزمر/69 .
ولم يكن الخلاف في صفة النور إلا مع المعتزلة.
وقال ابن القيم رحمه الله في "النونية" ص 212:
"وَالنُّورُ مِنْ أسْمائِهِ أيْضاً، وَمِنْ * أَوْصَافِهِ، سُبْحَانَ ذِي البُرْهَانِ
وحِجَابه: نورٌ؛ فلو كشفَ الحِجا * بَ لَأَحْرقَ السُّبحاتُ للأكوانِ
وإِذا أَتى للفصلِ، يُشرقُ نُورهُ * في الأرضِ، يومَ قِيامةِ الأَبدانِ" انتهى.
وقال رحمه الله: " الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ:
أَنَّ إِضَافَةَ النُّورِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَوْ كَانَ إِضَافَةَ مِلْكٍ وَخَلْقٍ ، لَكَانَتِ الْأَنْوَارُ كُلُّهَا نُورَهُ، فَكَانَ نُورُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْمِصْبَاحِ نُورهُ، فَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ، إِضَافَةَ مَخْلُوقٍ إِلَى خَالِقِهِ، كَانَ نُورُهُ حَقِيقَةً، فَيَا عَجَبًا لَكُمْ: أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَقِيقَةً، وَأَنْ يَكُونَ لِوَجْهِهِ نُورٌ حَقِيقَةً، ثُمَّ جَعَلْتُمْ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْمَصَابِيحِ نُورَهُ حَقِيقَةً .
وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ بِالضَّرُورَةِ فَسَادَ هَذَا، وَأَنَّ نُورَهُ الْمُضَافَ إِلَيْهِ يَخْتَصُّ بِهِ، لَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ نُورَ الْمِصْبَاحِ قَامَ بِالْفَتِيلَةِ مُنْبَسِطًا عَلَى السُّقُوفِ وَالْجُدْرَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ نُورُ الرَّبِّ تَعَالَى، الَّذِي هُوَ نُورُ ذَاتِهِ وَوَجْهِهِ الْأَعْلَى، بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، كَمَا أَنَّ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْمَصَابِيحِ مُضَافٌ إِلَيْهَا حَقِيقَةً، قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان: 61] ، وَقَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ؛ فَهَذَا نُورٌ مَخْلُوقٌ ، قَائِمٌ بِجِرْمٍ مَخْلُوقٍ ، لَا يُسَمَّى بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى وَلَا يُوصَفُ بِهِ ، وَلَا يُضَافُ إِلَيْهِ إِلَّا عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَهُ ، مَجْعولٌ ؛ لَا عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ قَائِمٌ بِهِ.
فَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ نُورِ وَجْهِهِ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاسْتَعَاذَ بِهِ الْعَائِذُونَ ؛ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ" انتهى من "مختصر الصواعق"، ص 424.
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله: " أريد من سماحتكم تفسير قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
فأجاب: معنى الآية الكريمة عند العلماء أن الله سبحانه منورها، فجميع النور الذي في السماوات والأرض ، ويوم القيامة : كله من نوره سبحانه.
والنور نوران: نور مخلوق ، وهو ما يوجد في الدنيا والآخرة ، وفي الجنة ، وبين الناس الآن من نور القمر والشمس والنجوم. وهكذا نور الكهرباء والنار ؛ كله مخلوق ، وهو من خلقه سبحانه وتعالى.
أما النور الثاني: فهو غير مخلوق بل هو من صفاته سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وبحمده بجميع صفاته : هو الخالق ، وما سواه مخلوق، فنور وجهه عز وجل، ونور ذاته سبحانه وتعالى، كلاهما غير مخلوق، بل هما صفة من صفاته جل وعلا.
وهذا النور العظيم وصف له سبحانه ، وليس مخلوقا ؛ بل هو صفة من صفاته ، كسمعه وبصره ويده وقدمه ، وغير ذلك من صفاته العظيمة سبحانه وتعالى.
وهذا هو الحق الذي درج عليه أهل السنة والجماعة" انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز"(6/ 54).
وينظر : جواب السؤال رقم : (160145).
والحاصل:
أن النور الوارد في الحديث هو نور الصفة، وصفته قائمة به سبحانه، ولا يلزم من تنويره لشيء من خلقه ، أن تفارق الصفة الموصوف ، أو أنه يتجزأ وينفصل.
والله أعلم.