في تفسير الرازي للآية ٤٥ من سورة يس قال: لما قال: اتقوا بمعنى أنكم إن لم تقطعوا بناء على البراهين فاتقوا احتياطا، قال: لعلكم ترحمون يعني أرباب اليقين يرحمون جزما، وأرباب الاحتياط يرجى أن يرحموا، والحق ما ذكرنا من وجهين: أحدهما: اتقوا راجين الرحمة فإن الله لا يجب عليه شيء. وثانيهما: هو أن الاتقاء نظرا إليه أمر يفيد الظن بالرحمة فإن كان يقطع به أحد لأمر من خارج فذلك لا يمنع الرجاء؛ فإن الملك إذا كان في قلبه أن يعطي من يخدمه أكثر من أجرته أضعافا مضاعفة لكن الخدمة لا تقتضي ذلك، يصح منه أن يقول: افعل كذا، ولا يبعد أن يصل إليك أجرتك أكثر مما تستحق". فآمل توضيح الوجه الثاني المذكور.
الحمد لله.
أولًا :
في تفسير قول الله تعالى: وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون يس/45، قرر فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى ، أنَّ الله تعالى ذكر لهؤلاء الكافرين الآيات الدالة على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وأن هذه الآيات تفيد اليقين في دلالتها؛ ولكنَّ هؤلاء لم ينتفعوا بذلك، فحذرهم الله تعالى من العذاب؛ فكأنَّه قيل لهم، في مقام التنزل: إذا لم تنتفعوا بتلك الآيات؛ فلا أقل من أن تتحرزوا من العذاب، وتتقوه، وتجتنبوه.
والإنسان قد لا يصدق بشيء على وجه اليقين، لكن يحترز من مغبة التفريط في الاحتراز منه، على وجه الاحتياط، وأخذ الوثيقة للنفس. قال:
" وجه تعلق الآية بما قبلها: هو أن الله تعالى لما عدد الآيات بقوله: ( وآية لهم الأرض )، ( وآية لهم الليل )، ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ) [يس: 33، 37، 41] .
وكانت الآيات تفيد اليقين، وتوجب القطع بما قال تعالى، ولم تفدهم اليقين؛ قال فلا أقل من أن يحترزوا عن العذاب؛ فإن من أُخبر بوقوع عذاب: يتقيه، وإن لم يقطع بصدق قول المخبِر، احتياطا؛ فقال تعالى: إذا ذُكر لهم الدليل القاطع لا يعترفون به، وإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون؛ فهم في غاية الجهل، ونهاية الغفلة. لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا مثل العامة الذين يبنون الأمر على الأحوط، ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى: ( لعلكم ترحمون ) ، بحرف التمني ؛ أي في ظنكم ؛ فإن من يخفى عليه وجه البرهان، لا يترك طريقة الاحتراز والاحتياط.
وجواب قوله: ( إذا قيل لهم اتقوا ) : محذوف؛ معناه: وإذا قيل لهم ذلك، لا يتقون، أو: يعرضون. وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم) [الأنعام: 4].. "
وفسَّر بقية الآية، وقال عند قوله تعالى: (لعلكم ترحمون) :
"مع أن الرحمة واجبة.
فيه وجوه، ذكرناها مرارًا، ونزيد هاهنا وجها آخر، وهو أنه تعالى لما قال: (اتقوا) بمعنى أنكم، إن لم تقطعوا بناء على البراهين؛ فاتقوا احتياطًا. قال: (لعلكم ترحمون) يعني: أرباب اليقين يُرحمون جزمًا، وأرباب الاحتياط يُرجى أن يرحموا.
والحق ما ذكرنا من وجهين:
أحدهما: اتقوا راجين الرحمة؛ فإن الله لا يجب عليه شيء.
وثانيهما: هو أن الاتقاء، نظرًا إليه ، أمر يفيد الظن بالرحمة. فإن كان يَقطع به أحد، لأمر من خارج؛ فذلك لا يمنع الرجاء، فإن الملك إذا كان في قلبه أن يعطي من يخدُمه أكثر من أجرته أضعافًا مضاعفة، لكن الخدمة لا تقتضي ذلك؛ يصح منه أن يقول: افعل كذا، ولا تُبْعِد أن يصل إليك أجرتك أكثر مما تستحق»، انتهى.
فقرر أن قوله تعالى: (لعلكم ترحمون)، جاء فيه (لعل) الدالة على الرجاء، فهل هذا الرجاء في محله، أو أن الرحمة واجبة على الله؟
فذكر أن الصحيح أن (لعل) في هذا السياق تدل على الرجاء، فهي على بابها. واستدل بأمور:
1- أنَّ الله لا يجب عليه شيء.
2- أنَّ الاتقاء من حيث هو لا يوجب القطع بالرحمة، وأنَّ القطع يحصل بأمور خارجية، والقطع بأمور خارجية، لا يمنع أن تكون لعل على بابها من الرجاء، فإن الملك من الناس، مثلا، لو عزم على أن يعطي خادمه أجرة أكثر مما يستحقه عمله، لم يمنع أن يقول للخادم، اعمل كذا، وهناك أمل أن تأخذ من الأجر كذا وكذا، فوق ما يستحقه العامل.
انظر: "تفسير الرازي"(26/286-287).
ثانيا:
ما جاء في كلام الرازي من أن الله تعالى "لا يجب عليه شيء" ، هو من مبالغات الأشاعرة في مناقضة مذهب المعتزلة، في الإيجاب على الله تعالى بمحض القياس العقلي، كما هو مشهور من مذهب القوم.
والصواب هنا، ما ذهب إليه أهل السنة، وهو بطلان الإيجاب عليه تعالى بمجرد القياس العقلي، والنظر؛ غير أن ذلك لا يمنع أن يكون تعالى قد تفضل على عباده برحمته ومنه وكرمه فأوجب على نفسه الرحمة، كما ذكر في كتابه، وحرم الظلم على نفسه ، وأمَّن عباده منه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله :
"وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية - أي المعتزلة - وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول.
وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا.
ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح"، انتهى.
انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" (409-410).
وينظر ما سبق في جواب السؤال رقم:(198666)، ورقم:(332284).
والله أعلم.