الحمد لله.
أولًا:
الجسد على قول المتقدمين من المفسرين (شيطان)، وهذا ما ورد في أخبار بني إسرائيل، ولو لم يُفسِّروا بذلك لبقي تعيين هذا المبهم (الجسد) مشكلًا، ولمَّا استفصلوا من أخبار بني إسرائيل تبين شيء من المراد بهذه الفتنة التي ذُكِرت مجملة.
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ولقد فتنا سليمان أي: اختبرناه بأن سلبناه الملك مرة، وألقينا على كرسيه جسدًا قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم: يعني شيطانًا. ثم أناب أي: رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته" انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/ 66).
وممن ورد عنه هذا حمل الجسد على الشيطان: ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وغيرهم.
انظر: "تفسير الطبري" (21/ 196- 199 )، و"تفسير ابن أبي حاتم" (10/ 3241 - 3243 ).
ونحن نقبل من هذه القصة مجمل ما دلت عليه، وهو ما ذكره الإمام ابن كثير، أما تفاصيل هذه القصة ففي بعضها ما لا يمكن الجزم بصحته، وفي بعضها ما يمكن الجزم ببطلانه، فإنا لا نقبل أن يكون الشيطان تسلط على نساء سليمان عليه السلام كما في بعض روايات القصة.
وبنظر جواب السؤال (448489)
ثانيًا:
ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللهُ فَلَمْ يَقُلْ وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) البخاري (3424).
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هذا الحديث تفسير للجسد المذكور في "فتنة" سليمان، عليه السلام. واختاره أبو حيان في تفسيره، والشنقيطي، وغيرهما.
وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم:(285128).
وأكثر المفسرين من السلف على القول الأول، وأن تفسير "جسدا" : شيطانا.
وهو ظاهر اختيار البخاري، وأنه لم يضع حديث أبي هريرة تفسيرا للآية. فقال: "جَسَدًا شَيْطَانًا"، انتهى من "صحيح البخاري" (4/161) .
وكذلك قال "الطبري" : "يقول تعالى ذكره: ولقد ابتلينا سليمان وألقينا على كرسيه جسدًا شيطانًا متمثلًا بإنسان"، انتهى من"تفسير الطبري" (20/ 87).
ثالثاً:
وأيا ما كان الأمر في تفسير قصة سليمان؛ ففي حديث أبي هريرة الصحيح: حث للعبد على الاستثناء في أموره.
قال ابن بطال، رحمه الله:
"وفيه أن من قال: (إن شاء الله)، وتبرأ من المشيئة [يعني: من مشيئة نفسه] لله، ولم يعط الخاصة لنفسه في أعماله؛ أنه حرى بأن يبلغ أمله، ويُعطَى أمنيته، ألا ترى أن سليمان لما لم يرد المشيئة إلى الله، ولم يستثن ما لله، فمن ذلك حرم أمله، ولو استثنى لبلغ أمله، كما قال صلى الله عليه وسلم.
وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة، فواجب ألا يبلغ أمله؛ بل منهم من يشاء الله إتمام أمله، ومنهم من يشاء ألا يتم أمله بما سبق في علمه. ولكن هذه التي أخبر عنها الرسول، أنها مما لو استثنى المشيئة، لتم أمله.
فدل هذا على أن الأقدار في علم الله على ضروب؛ فقد يقدر للإنسان الولد والرزق والمنزلة إن فعل كذا أو قال أو دعا، فإن لم يفعل ولا قال لم يعط ذلك الشيء.
وأصل هذا في قصة يونس صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون)، فبان بهذه الآية أن تسبيحه كان سبب خروجه من بطن الحوت، ولو لم يسبح ما خرج منه"، انتهى من"شرح صحيح البخاري" لابن بطال(5/ 32).
وهذا يشبه الآية في سورة الكهف، وقد قال الإمام "ابن دقيق" في شرح الحديث : "أَنْ يُذْكَرَ عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ فِي تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف: 23 - 24]".
انتهى من"إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (2/257).
وقال "ابن الملقن": "وإنما هذا الحديث مثل قوله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ [الكهف: 23 - 24]؛ أدبًا أدب الله به عباده، ليردوا الأمر إليه ويبرءوا من الحول والقوة إلا به".
انتهى من"التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (25/153).
والله أعلم.