الحمد لله.
أولا :
يجب على المسلم أن يعتقد أن النصوص الشرعية لا يعارض بعضها بعضا، إذ كلها وحي من الله تعالى، فلا يمكن أن تتعارض، قال الله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء/82.
وإنما يحصل التعارض في أذهان بعض الناس، أما بالنسبة لحقيقة الأمر فلا تعارض بين النصوص الشرعية.
ثانيا:
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة/3، على عدة أقوال، ولكنها في النهاية ترجع إلى قولين:
الأول: أن المراد بذلك: كمال الشرائع، من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، وقد نزلت هذه الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة في حجة الوداع، وكان ذلك آخر ركن من أركان الإسلام يتم تشريعه، وهو الحج، فكمل ذلك الدين بفرائضه وأركانه وحلاله وحرامه، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد نزولها بأقل من ثلاثة أشهر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وقَوْله تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أَيْ : فِي التَّشْرِيعِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/232).
وقال أيضا (20/152):
"فَأَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ بِإِيجَابِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي آخِرُهَا الْحَجُّ ، وَتَحْرِيمِهِ لِلْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ" انتهى.
ونحو ذلك قاله ابن كثير في تفسير الآية (3/26).
القول الثاني: أن المراد بكمال الدين في الآية هو نصره على أعدائه، حيث فتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وانقمع أعداء الدين، حتى حج الرسول صلى الله عليه وسلم في العام العاشر، ولم يحج معه مشرك.
وقد حكى القولين في تفسير الآية الكثير من المفسرين، كالقرطبي (6/61)، والقاسمي (4/30) وغيرهما.
وذكر ابن جرير الطبري رحمه الله القولين ومن قال بهما من السلف، واختار القول الثاني، فقال:
"وَأَوْلَى الأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، أَنَّهُ أَكْمَلَ لَهُمْ يَوْمَ أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى نَبِيِّهِ دِينَهُمْ , بِإِفْرَادِهِمْ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَإِجْلاَئِهِ عَنْهُ الْمُشْرِكِينَ , حَتَّى حَجَّهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَهُمْ , لا يُخَالِطُهُم مُشْرِكُ" انتهى من "تفسير الطبري" (8 /79-83).
ولا مانع من حمل الآية على المعنيين جميعا، فيكون المراد بإكمال الدين: نصره على أعدائه، وإكمال الشرائع.
قال السعدي رحمه الله في تفسيره "ص 220:
" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع، ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين أصوله وفروعه.
فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله" انتهى.
ثالثا:
لا تعارض بين هذه الآية الكريمة وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب الله تعالى) رواه مسلم (1218)، وللحاكم: (كتاب الله وسنتي) صححه الألباني في "صحيح الجامع" (2937).
لأنه إذا كان معنى الآية: نصر الدين، فالحديث في موضوع آخر، وهو التمسك بالكتاب والسنة.
وأما إن كان معنى الآية: إكمال الشرائع، فالحديث يؤكد ذلك، ولا يعارضه، لأن الشرائع لا يمكن أن تتلقى إلا من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء/59.
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى رسول الله هو الرد إلى سنته.
وقال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) آل عمران/64.
والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب "الرسالة" (ص 71):
"فذكر الله الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يشبه ما قال، والله أعلم. لأن القرآن ذُكر، وأُتبعته الحكمة ، وذكر الله منّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة؛ فلم يجز - والله أعلم - أن يقال: الحكمة ها هنا ؛إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" انتهى.
فالدين مبني على أصلين: الكتاب والسنة، ولا يمكن لمسلم أن يعبد الله تعالى حق عبادته إلا بالتمسك بالكتاب والسنة، فالسنة تفسر القرآن وتبينه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وَدِينُ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ ، وَعَلَى أَنْ يُعْبَدَ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ قَوْلِنَا: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
فَالْإِلَهُ هُوَ الَّذِي تَأْلَهُهُ الْقُلُوبُ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَقٌّ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَلَا يُعْبَدُ إلَّا اللَّهُ، وَلَا يُدْعَى إلَّا اللَّهُ، وَلَا يُخَافُ إلَّا اللَّهُ ، وَلَا يُطَاعُ إلَّا اللَّهُ.
وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَحْرِيمَهُ ، فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ؛ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ؛ وَسَائِرِ مَا بَلَّغَهُ مِنْ كَلَامِهِ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/365).
وقال ابن القيم في "أعلام الموقعين" (1/332).
"فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، وجميع ما عفا عنه، وبهذا يكون دينه كاملا، كما قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)" انتهى.
وبهذا يظهر أن الحديث يوافق الآية الكريمة ولا يعارضها.
والله أعلم.