في سورة الواقعة نعرف أن الناس يوم القيامة أصنافا ثلاثة: أصحب الميمنة، أصحب المشئمة، السابقون المقربون، ونعرف أيضا من نفس السورة أن أصحب الميمنة والسابقين المقربين كلاهما من أهل الجنة، ولكن المقربين هم الأعلى منزلة فى الجنة، فهمت سورة الواقعة جيدا، وأن المقربين هم أعلى الدرجات، ولهم كل أصناف النعيم، ولكن لم أستطع الربط بينها وبين وصف أهل الجنة فى السور الأخرى. فمثلا: هل المتقين فى سورة الطور من الآية 17 إلى 28 المقصود أنهم السابقون المقربون؛ لأنهم يطوف عليهم ولدان مخلدون مثلما ذكر فى سورة الواقعة، أم هو وصف لكل أهل الجنة فى العموم، ويشمل أصحب الميمنة؟ كذلك نفس السؤال بالنسبة إلى الأبرار فى سورة الإنسان من الآية 5 وحتى 22، هل المقصود بالأبرار أنهم هم المقربون فى سورة الواقعة، أم أنه وصف لكل أهل الجنة، ويشمل أصحب الميمنة أيضا؟
الحمد لله.
أولًا:
يذكر الله تعالى في القرآن الكريم أهل الجنة على طريقتين :
الأولى : أن لا يذكر انقسامهم إلى مقربين وأصحاب اليمين، فيكون ذكرهم في هذه المواضع شاملا لجميع أهل الجنة.
الطريقة الثانية : أن يذكر انقسامهم إلى مقربين وأصحاب يمين ، غير أن هذا قد يكون صريحا كما في سورة الواقعة ، وقد يكون غير صريح ، لكن يفهمه أهل العلم من سياق الآيات ومعناها ، كما في سورة الإنسان .
وعلى هذا فقوله تعالى في سورة الطور: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤)) الطور/17-24.
الظاهر أن هذه الآيات تتناول عموم أهل الجنة، وعلى هذا تدل عبارات كثير من المفسرين .
انظر: "تفسير الطبري" (21/577).
قال الآجري: "وكذلك ذكر الله تعالى المتقين في كتابه في غير موضع منه، ودخولهم الجنة، فقال: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وهذا في القرآن كثير ، مثل قوله في الزخرف الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين [الزخرف: 67] إلى قوله وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [الزخرف: 72]، ومثل قوله في سورة ق، والذاريات، والطور، مثل قوله: إن المتقين في جنات ونعيم * فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون [الطور: 18] وقال في سورة المرسلات: إن المتقين في ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون [المرسلات: 41]" انتهى من "الشريعة" للآجري (2/ 635 - 636).
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض الآيات الدالة على انقسام أهل الجنة إلى سابقين وأصحاب يمين ، فقال : "وإنما المقصود هنا أن نقول: انقسامُ أولياءِ الله إلى عامٍّ وخاص: تقسيم صحيح، لكنَّ الخواص هم السابقون المقرَّبون، والعامة هم الأبرار أصحاب اليمين، قال تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]. وقال تعالى: ((6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) الواقعة/ 7 - 11، وقال تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) الواقعة/88 - 91]. وقال: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) … ) إلى قوله تعالى: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) المطففين/22 - 28.
قال ابن عباس: يشرب بها المقرّبون صِرْفًا، ويُمزَج لأصحاب اليمين مزجًا. وقال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ) الإنسان/5.
فهذه خمسة مواضع من كتاب الله يذكر فيها انقسام أهل الجنة إلى أبرارٍ أصحابِ يمين، ومقربين سابقين ، وفي (صحيح البخاري) الحديث الإلهي المشهور: يقول الله: مَن عادَى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة . فقد قسم الأولياء إلى من تقرب بالفرائض ومَن لا يزال يتقرب إليه بالنوافل بعد الفرائض، ولهذا قال مَن قال: إن الأولين هم الأبرار وإن الآخرين هم المقربون"، انتهى.
"الرد على الشاذلي في حزبيه وما صنفه في آداب الطريق" (1/ 165 - 166)، "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (ص 31)، "جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم" (1/ 70).
وقال أيضا: " فَإِن قيل: فَلم اقْتصر من آنيتهم وحليتهم على الْفضة دون الذَّهَب، وَمَعْلُوم أَن الْجنان جنتان من فضَّة آنيتهما وحليتهما وَمَا فيهمَا، وجنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وَمَا فيهمَا؟
قيل: سِيَاق هَذِه الْآيَات إِنَّمَا هُوَ فِي وصف الْأَبْرَار ونعيمهم مفصلًا، دون تَفْصِيل جَزَاء المقربين، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَشَارَ إِلَيْهِ إشارة تنبه على مَا سكت عَنهُ، وَهُوَ: أَن شَراب الْأَبْرَار يُمزج من شرابهم.
فالسورة مسوقة بِصفة الْأَبْرَار وجزائهم على التَّفْصِيل؛ وَذَلِكَ - وَالله أعلم - لأَنهم أَعم من المقربين، وَأكْثر مِنْهُم، وَلِهَذَا يخبر سُبْحَانَهُ عَنْهُم بِأَنَّهُم (ثلة من الْأَوَّلين وثلة من الآخرين)، وَعَن المقربين السَّابِقين بِأَنَّهُم (ثلة من الْأَوَّلين وَقَلِيل من الآخرين).
وَأَيْضًا: فَإِن فِي ذكر جَزَاء الْأَبْرَار تَنْبِيها على أَن جَزَاء المقربين مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذكر أهل الْكفْر وَأهل الشُّكْر، وَأهل الشُّكْر نَوْعَانِ: أبرار أهل يَمِين، ومقربون سَابِقُونَ.
وكل مقرب سَابق فَهُوَ من الْأَبْرَار، وَلَا ينعكس، فاسم الْأَبْرَار والمقربين كاسم الْإِسْلَام وَالْإِيمَان أَحدهمَا أَعم من الآخر"، انتهى، "جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم" (1/ 73 - 74).
ونقل ابن القيم عن بعض العلماء: "وقالوا: وأيضًا فهذه طريقة القرآن في ذكر أصناف الخلق الثلاثة، كما ذكرهم تعالى في سورة الواقعة والمطففين وسورة الإنسان.
فأمَّا سورة الواقعة، فذكرهم في أولها وفي آخرها، فقال في أولها: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الواقعة/ 7 - 12.
فأصحاب المشأمة هم الظالمون. وأمَّا أصحاب اليمين فقسمان: أبرار وهم أصحاب الميمنة، وسابقون وهم المقربون.
وقال في آخرها: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ).
فذكر حالهم في القيامة الكبرى في أوَّل السورة، ثمَّ ذكر حالهم في القيامة الصغرى في البرزخ في آخر السورة. ولهذا قدَّم قبله ذكر الموت ومفارقة الروح، فقال: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، ثمَّ قال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) إلى آخرها.
وأمَّا في أوَّلها فذكر أقسام الخلق عقب قوله: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً *) الواقعة/ 2 - 7.
وأمَّا سورة الإنسان فقال تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا )، فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأمة.
ثمَّ قال: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ، فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين.
ثمَّ قال: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ، فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصَّهم بالإضافة إليه، وأخبرَ أنَّهم يشربون بتلك العين صِرفًا محضًا، وأنَّها تُمزَج للأبرار مزجًا، كما قال في سورة المطففين في شراب الأبرار: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ.
وقال: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ولم يقل: "منها"، إشعارًا بأنَّ رِيَّهم بالعينِ نفسِها خالصةً لا بها وبغيرها....
وقال تعالى في سورة المطففين: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ إلى قوله: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال.
ثمَّ قال: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، فهؤلاء الأبرار المقتصدون. وأخبر أنَّ المقرَّبين يشهدون كتابَهم، أو يُكتَب بحضرتهم ومشهدهم، لا يغيبون عنه، اعتناءً به وإظهارًا لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربِّه.
ثمَّ ذكرَ سبحانه نعيم الأبرار، ومجالسهم، ونظرهم إلى ربِّهم، وظهورَ نضرة النعيم في وجوههم. ثمَّ ذكرَ شرابهم فقال: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ . ثمَّ قال: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، والتسنيم أعلى أشربة الجنَّة. فأخبر سبحانه أنَّ مزاجَ شراب الأبرار من التسنيم، وأنَّ المقرَّبين يشربون منه بلا مزاج. ولهذا قال: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ كما قال في سورة الإنسان سواءً.
قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفًا وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا. وهذا لأنَّ الجزاء وفاقُ العملِ، فكما خلصت أعمالُ المقربين كلُّها للَّه، خلص شرابهم؛ وكما مزَجَ الأبرارُ الطاعاتِ بالمباحات، مُزِجَ لهم شرابُهم. فمن أخلصَ أُخلِصَ شرابُه، ومن مزَج مُزِج شرابُه"، انتهى.
"طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط. عطاءات العلم" (1/ 420 - 423).
وينظر : "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم" (1/ 392 - 394).
فتحصل من كلام هؤلاء العلماء أن الأبرار منزلة عامة، وأن المقربين في منزلة أعلى منهم، وكل مقرب فهو من الأبرار، وليس كل من كان من الأبرار فهو من المقربين.
والله أعلم.