الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

إذا قلد عالمًا معروفا بالعلم والأمانة لم يأثم

السؤال

أنا طالب مبتعث للدراسة في دولة غير مسلمة ، وسؤالي هو : هل علي إثم إذا أخذت برأي أحد العلماء المشهود لهم بالعلم والورع في مسألة تخص العبادات - مع ظني أن معه دليلا ملحوظة : الموضوع يتعلق أساسا بمسألة القصر والجمع في الصلاة لمن هو في مثل حالتي ، صحيحا - ؟ فهل علي إثم إذا أخذت برأيه ، والذي قد يكون أيسر لظروفي ، حتى وإن خالف رأي غيره ؟ وهل ذلك من السعة في الدين ؟ مع الاستشهاد أيضا بما روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه كان يختار أيسر الأمرين ما لم يكن إثما . وأنا أواجه صعوبات كثيرة قد لا يدركها إلا من يجربها ، ولكن - والله أعلم - ليست الرخصة هنا بسبب المشقة فقط ، ولكن إن الله يحب أن تؤتى رخصه . الرجاء إجابة سؤالي ، وأسأل الله أن يجعل ذلك في ميزان حسناتكم .

الجواب

الحمد لله.


أولا :
ليس على مَن قلَّد واحدا مِن أهل العلم ، المعروفين بالعلم والأمانة ، إثم ، إذ هو ممتثل بتقليده قول الله عز وجل : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل/43 ، والعالم بالنسبة للعامي كالدليل ، يجب عليه أن يبحث عنه ويتبع فتواه .
يقول الشاطبي في "الموافقات" (4/292) :
" فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين ، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء ، إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا ، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم ، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة ، وقد قال تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ، والمقلد غير عالم ، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر ، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق ، فهم إذًا القائمون له مقام الشارع ، وأقوالهم قائمة مقام الشارع " انتهى .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (32/47-49) :
" يجب على المستفتي إن وقعت له حادثة أن يسأل متّصفاً بالعلم والعدالة .
قال ابن عابدين نقلاً عن الكمال بن الهمام : الاتّفاق على ِحلّ استفتاء من عرف من أهل العلم بالاجتهاد والعدالة ، أو رآه منتصباً والنّاس يستفتونه معظّمين له ، وعلى امتناعه من الاستفتاء إن ظنّ عدم أحدهما - أي : عدم الاجتهاد أو العدالة - .
- إن وجد المستفتي أكثر من عالم ، وكلّهم عدل وأهل للفتيا :
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المستفتي بالخيار بينهم ، يسأل منهم من يشاء ويعمل بقوله ، ولا يجب عليه أن يجتهد في أعيانهم ليعلم أفضلهم علماً فيسأله ، بل له أن يسأل الأفضل إن شاء ، وإن شاء سأل المفضول مع وجود الفاضل ، واحتجّوا لذلك بعموم قول اللّه تعالى :
( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) ، وبأنّ الأوّلين كانوا يسألون الصّحابة مع وجود أفاضلهم وأكابرهم وتمكّنهم من سؤالهم .
- إن سأل المستفتي أكثر من مفت فاتّفقت أجوبتهم ، فعليه العمل بذلك إن اطمأنّ إلى فتواهم.
وإن اختلفوا ، فللفقهاء في ذلك طريقان :
فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة وبعض الحنابلة وابن سريج والسّمعانيّ والغزاليّ من الشّافعيّة - إلى أنّ العامّيّ ليس مخيّراً بين أقوالهم يأخذ بما شاء ويترك ما شاء ، بل عليه العمل بنوع من التّرجيح .
والأصحّ والأظهر عند الشّافعيّة وبعض الحنابلة : أنّ تخيّر العامّيّ بين الأقوال المختلفة للمفتين جائز ، لأنّ فرض العامّيّ التّقليد ، وهو حاصل بتقليده لأيّ المفتيين شاء " انتهى باختصار .
ثانيا :
الواجب عليك – أخي السائل – أن تعرض مسألتك على العالم الذي اشتهر علمه وأمانته وثقته ، ثم تأخذ بفتواه وتلتزمها ، ولا يجوز أن تقصِدَ تتبعَ الرخص والأسهل من الفتاوى ، إلا في حالة واحدة : وهي أن يكون الخلاف بين المفتين في مسألة فرعية اجتهادية ، ليس فيها نصوص من الكتاب أو السنة ترجح أحد الأقوال ، وإنما مرجع الترجيح فيها الرأي والاجتهاد المحض ، فلا حرج حينئذ من الأخذ بالرخصة من هذه الأقوال إذا احتاج المسلم لها ، فالقاعدة الشرعية تقول : " المشقة تجلب التيسير " .
جاء في "لقاءات الباب المفتوح" للشيخ ابن عثيمين (لقاء رقم/46، سؤال رقم/2) :
" السؤال : هل يجوز استفتاء أكثر من عالم ؟ وفي حالة اختلاف الفتيا ، هل يأخذ المستفتي بالأيسر أم بالأحوط ؟ وجزاكم الله خيراً .
الجواب :
لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالماً واثقاً بقوله أن يستفتي غيره ؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص ؛ بحيث يسأل فلاناً ، فإن لم يناسبه سأل الثاني ، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا . وقد قال العلماء في تتبع الرخص : فِسق .
لكن أحياناً يكون الإنسان ليس عنده من العلماء إلا فلان مثلاً ، فيسأله من باب الضرورة ، وفي نيته أنه إذا التقى بعالم أوثق منه في علمه ودينه سأله ، فهذا لا بأس به أن يسأل الأول للضرورة ، ثم إذا وجد من هو أفضل سأله .
وإذا اختلف العلماء عليه في الفتيا ، أو فيما يسمع من مواعظهم ونصائحهم – مثلاً - ، فإنه يتبع مَن يراه إلى الحق أقرب في علمه ودينه .
فإن تساوى عنده الرجلان في العلم والدين :
فقال بعض العلماء : يتبع الأحوط وهو الأشد .
وقيل : يتبع الأيسر .
وهذا هو الصحيح ؛ أنه إذا تعادلت الفتيا عندك فإنك تتبع الأيسر ؛ لأن دين الله عز وجل مبني على اليسر والسهولة ، لا على الشدة ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها في وصف النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ) " انتهى .
وعليه : فلا يجوز لك الأخذ بقول من يقول بالرخصة إلا بشرطين اثنين :
1- ألا يكون قد خالف جماهير أهل العلم من السلف والخلف ، فهو – ولا شك – الأعلم والأورع الذين ينبغي على الناس اتباع مذهبهم .
2- وأن تتكافأ الأدلة التي يذكرها أصحاب القولين في المسألة ، فلك ـ حينئذ ـ أن تأخذ بالأيسر من القولين .
والله أعلم .
ويمكنك مراجعة ما سبق في موقعنا في هذا الباب في الأرقام الآتية : (9516) ، (22652) ، (30842)
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب