الحمد لله.
أولاً :
نشكر لك أخي السائل حرصك على الخير ، وتطبيق السنَّة ، واجتناب ما يخالفها ، ونسأل الله تعالى أن يوفقك لما فيه رضاه .
ثانياً :
ينبغي أن نفرق بين ما أجمع أهل العلم على أنه بدعة منكرة ، وما اختلف فيه أهل العلم ، كوضع اليدين في حال القيام في الصلاة ، أو الدعاء بعد الصلاة ، أو القنوت في صلاة الفجر كل يوم ... إلخ .
فيشدد في الإنكار في النوع الأول (ما أجمع العلماء على بدعيته) ، ويكون الإنكار في النوع الثاني (ما اختلف العلماء على بدعيته) بدرجة أقل ، وقد لا يُنكر من الأصل ، ويسكت الإنسان عنه ، لقوة الخلاف فيه .
وانظر جواب السؤال رقم (70491) ، لتعرف الفرق بين المسائل التي يُنكر على المخالف فيها ، والتي لا ينكر عليه فيها .
وينبغي أن نعلم أيضاً أن الشرع جاء بتحصيل المصالح وتكميلها ودفع المفاسد وتقليلها .
فعند حصول تعارض بين تحصيل مصلحة ودفع مفسدة ، فينظر إلى الأهم منهما ، وتراعى بالتقديم .
وعلى هذا ؛ فقد جاءت السنة بوضع اليدين على الصدر في حال القيام في الصلاة ، وجاءت السنة بالجهر بالذكر عقب الصلاة المفروضة ، يجهر كل مصلٍّ بمفرده ، ثم إن دعا بعد هذه الأذكار فإنما يدعو سراً بمفرده .
فما يدعونك إليه مفسدة ، ومخالف للسنة .
فهل ترفض إمامتهم في الصلاة حتى لا تقع في مخالفة السنة ، وترتكب هذه المفسدة ؟ أو تقبل؟
الجواب على هذا أن يقال :
إن كان رفضك للإمامة سيترتب عليه أن يأتي إمام هو أقدر منك على إلزام هؤلاء بالسنة وتعليمها لهم ، ولا يقع في مخالفة السنة ، فإنك ترفض ذلك .
أما إن كان رفضك سيعني أن يأتي إمام جاهل يرتكب هذه المخالفات ويزيد عليها أضعافها ، ولا يُعَلِّم الناس السنة ، ولا يلتزم بها ، بل قد يحارب السنة وأهلها ، جهلاً منه أو اتباعاً لهواه ، فلا ينبغي لك أن تتردد في قبول إمامة هؤلاء ولو ألزموك بهذه المخالفات ، لأن هذا سيكون أقل مفسدة مما لو رفضت .
وقد سبق أن الشرع جاء بدفع المفاسد وتقليلها ، ثم إذا حصل تآلف بينك وبينهم فيما بعد ، فإنك تسعى في تعليمهم السنة ، والأخذ بأيديهم إليها شيئاً فشيئاً .
ولتنقل لهم أقوال بعض العلماء الذين يعظمونهم في إنكار ما تريد إنكاره من البدع ، على أن يكون ذلك بالتدريج حتى لا ينفر الناس منك .
وهذه أقوال لبعض أهل العلم في ترك الإمام ما يرى أنه سنة مستحبة تأليفاً لقلوب المأمومين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
"ولو كان الإمام يرى استحباب شيء والمأمومون لا يستحبونه فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف : كان قد أحسن . مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه لا يكون إلا بثلاث متصلة . كالمغرب : كقول من قاله من أهل العراق . والثاني : أنه لا يكون إلا ركعة مفصولة عما قبلها كقول من قال ذلك من أهل الحجاز . والثالث : أن الأمرين جائزان كما هو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وهو الصحيح . وإن كان هؤلاء يختارون فصله عما قبله فلو كان الإمام يرى الفصل فاختار المأمومون أن يصلي الوتر كالمغرب فوافقهم على ذلك تأليفا لقلوبهم كان قد أحسن ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه) فترك الأفضل عنده : لئلا ينفر الناس .
وكذلك لو كان رجل يرى الجهر بالبسملة فأم بقوم لا يستحبونه أو بالعكس ووافقهم كان قد أحسن" انتهى .
"مجموع الفتاوى" (22/268) .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
هل يجوز ترك الجهر بالتأمين في الصلاة ، وعدم رفع اليدين ؟ .
فأجاب :
"نعم ، إذا كان بين أناس لا يرفعون ، ولا يجهرون بالتأمين : فالأولى أن لا يفعل ؛ تأليفاً لقلوبهم ، حتى يدعوهم إلى الخير ، وحتى يعلمهم ، ويرشدهم ، وحتى يتمكن من الإصلاح بينهم ، فإنه متى خالفهم استنكروا هذا ؛ لأنهم يرون أن هذا هو الدين ، يرون أن عدم رفع اليدين فيما عدا تكبيرة الإحرام يرون أنه هو الدين ، وعاشوا عليه مع علمائهم ، وهكذا عدم الجهر بالتأمين ، وهو خلاف مشهور بين أهل العلم ، منهم من قال يجهر ، ومنهم من قال : لا يجهر بالتأمين ، وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رفع صوته ، وفي بعضها أنه خفض صوته ، وإن كان الصواب أنه يستحب الجهر بالتأمين ، وهو شيء مستحب ، ويكون ترك أمراً مستحبّاً ، فلا يفعل مؤمن مستحبّاً يفضي إلى انشقاق ، وخلاف ، وفتنة ، بل يترك المؤمن المستحب ، والداعي إلى الله عز وجل ، إذا كان يترتب على تركه مصالح أعظم ، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم ، قال : ( لأن قريشا حديثو عهد بكفر) ، ولهذا تركها على حالها ، ولم يغير عليه الصلاة والسلام للمصلحة العامة" انتهى .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 29 / 274 ، 275 ) .
والله أعلم
تعليق