الحمد لله.
نعم ، يا عبد الله ، لا شك أن ما يعاودك من الإحساس بالنفاق ، والنزوع إلى ماضيك الأسود ، لتستريح من هذا الصراع ، لا شك أن ذلك كله من تلاعب إبليس ووسوسته وإغوائه ، فأنت اليوم أحسن مما كنت عليه بالأمس ، بل لا مقارنة بين الحالين ، وغدا ستكون أفضل من اليوم بإذن الله ، إن أنت ثابرت واجتهدت واستمررت في الطاعة والإنابة .
والواجب أن تحمد الله تعالى وتشكره على هذه النعمة وهي ترك المخدرات وما كان يرافقها من الذنوب والآثام ، فإن المخدرات هلاك في الدنيا والآخرة ، فالْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [ رواه الطبراني ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3344) ] ، والناجي منها بعد الابتلاء بها يعتبر مولودا جديدا ، فاحمد الله تعالى ، واستحضر نعمه ، ليزيد إقبالك ، ويعظم شكرك ، ويذهب عنك الملل والسأم .
تأمل كيف هداك الله للصلاة ، وجعلك من أهل المساجد ، وكيف ساقك إلى طلب العلم الذي هو أشرف الأعمال ، ومن سلك طريقه سهل الله له طريقه إلى الجنة ، فكيف ترضى لإبليس أن يقول لك إنك منافق ، وإنه ينبغي أن تعود لسيرتك الأولى في الظلام والظلمات !
أهذا لأجل معصية لازلت مقيما عليها ؟!
فقد نجاك الله من عشراتٍ أمثالها أو أعظم منها ، أفلا تكون عبدا شكورا ؟
وهل من الشكر أن ترفض نعمة الله عليك ، وتختار الغواية والانحراف ، بعد الهداية والصلاح ؟!
إن إحساسك وخوفك من النفاق دليل على وجود الإيمان في قلبك ، وهكذا كان يخاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من النفاق .
قال البخاري رحمه الله في صحيحه : " بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ : مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ .
وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ : مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ " انتهى .
أما أهل الغفلة والغواية فلا يشعرون بهذا النفاق ، ولا يخافون منه ، ولا يلتفتون إليه ، ولو لرجعت بذاكرتك إلى الماضي لأدركت ذلك ، فلا عليك أيها الأخ الكريم من هذه الوساوس ، فأنت في خير ونعمة والحمد لله .
وأما هذا الذنب الذي أنت مقيم عليه ، فرجاؤنا فيك ، وقد من الله عليك بالتوبة من هذه الموبقات ، أن تشكر نعمة ربك عليك ، وتترك ذلك الدنس الباقي على ثوبك ، لتقابل ربك نظيفا برا طاهرا ، قد غسلت صحيفتك بماء التوبة ، ودمع الندم والألم على ما فات منك . رجاؤنا فيك ، ودعاؤنا لك ، أن تشعر بنعمة الله عليك إذ سترك ، وبإمهاله لك إذ لم يعاجلك بالعقوبة على معاصيك ، أو يأت أجلك وأنت على حال العصيان ، أما تستحي من ربك الكريم الستير أن يراك على ما يكره ، أما تخشى أن ينمو في قبلك حب هذه المعصية ، فيورثك غيرها من المعاصي ، أو يردك إلى ماضيك المظلم ، أما تخشى أن تضعف توبتك ، أما تخشى أن تكون منازعة الشيطان لك ، وإيهامه لك بالنفاق من أثر تلك المعصية ، أما تحمد الله أن بصرك بذنبك ، ودعاك للتوبة ؟!
ظننا فيك أن تقلع عن ذلك الذنب الذي ما زال عندك ، وستره الله عليك ، ولو فرض أن ضعفت نفسك فاقترفته ، فبادر بالتوبة النصوح منه ، واعلم أن من شروط التوبة : الإقلاع عن الذنب وتركه بالكلية ، والندم على ما فات ، والعزم الصادق على ألا تعود ؛ فهل أنت فاعل ـ يا عبد الله ؟ ظننا فيك ، ورجاؤنا منك ، ودعاؤنا لك : أن تفعل ، وفقك الله لما يحبه ويرضاه من التوبة النصوح ، والعلم النافع والعمل الصالح .
وروى البخاري (7507) ومسلم (2758) واللفظ له عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : ( أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ ) .
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم : " قَوْله عَزَّ وَجَلَّ لِلَّذِي تَكَرَّرَ ذَنْبه : ( اِعْمَلْ مَا شِئْت فَقَدْ غَفَرْت لَك ) مَعْنَاهُ : مَا دُمْت تُذْنِب ثُمَّ تَتُوب غَفَرْت لَك " انتهى .
فانظر إلى البر الرحيم ، الحليم الكريم ، كيف يستر ، ويعفو ويغفر ، ويدعوك إلى الله التوبة والإنابة ، والعودة إليه ، كلما زلت بك القدم ، ويقول لك : اهرب من الذنب ، وتعالى إلى رحمة الرب :
( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ . وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ . وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ . وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) الذاريات /47-51 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله " تفسير السعدي (811) - عند تفسيره للآية السابقة ـ : "
لما دعا العباد النظر لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه ، أمر بما هو المقصود من ذلك ، وهو الفرار إليه ، أي : الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا ، إلى ما يحبه ، ظاهرًا وباطنًا ، فرار من الجهل إلى العلم ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة ، ومن الغفلة إلى ذكر الله فمن استكمل هذه الأمور ، فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب ، وحصل له نهاية المراد والمطلوب .
وسمى الله الرجوع إليه فرارَا ؛ لأن في الرجوع لغيره ، أنواع المخاوف والمكاره ، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب والأمن والسرور والسعادة والفوز ، فيفر العبد من قضائه وقدره ، إلى قضائه وقدره ، وكل من خفت منه فررت منه إلا الله تعالى ، فإنه بحسب الخوف منه ، يكون الفرار إليه .
" إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ " أي : منذر لكم من عذاب الله ، ومخوف بين النذارة .
" وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ " هذا من الفرار إلى الله ، بل هذا أصل الفرار إليه أن يفر العبد من اتخاذ آلهة غير الله ، من الأوثان ، والأنداد والقبور ، وغيرها ، مما عبد من دون الله ، ويخلص العبد لربه العبادة والخوف ، والرجاء والدعاء ، والإنابة " انتهى .
فسارع بالفرار إلى الله ، واحذر من الفرار من ربك ، فإنك لا تفوته ، لكن يفوتك كل خير :
عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ رضي الله عنه ، أنه مَرَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ أَلْيَنِ كَلِمَةٍ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( أَلَا كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ ، شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ )
رواه أحمد (21723) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع .
فحذار ، يا عبد الله ، أن تكون من الشاردين !!
وأما شعورك بالممل والسأم ، فهذا شعور قد يعتري كثيرا من الناس ، وعلاجه بما يلي :
1. شغل الوقت بما ينفع من أمور الدنيا والآخرة ، كالانشغال بالعلم وحضور المحاضرات والدورات ، والانشغال بتجارة أو حرفة ؛ لأن الفراغ والبطالة مفسدة أي مفسدة .
قال صلى الله عليه وسلم : ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ) رواه البخاري (6412) .
2. اتخاذ الصحبة الصالحة التي تعين على الطاعة ، ويمكن مزاولة المباحات معها ، من نزهة ورياضة وسفر ، فإن الإنسان يحتاج إلى ساعة يروّح فيها عن نفسه ، حتى لا تسأم وتمل .
3. زيارة القبور وعيادة المرضى ، فإن ذلك مما يرقق القلب ، ويذكر بالآخرة .
4. الاجتهاد في الإحسان إلى الآخرين ، وتقديم العون لهم ، لا سيما من ابتلي بالذنوب والآثام ، فإن ذلك من وسائل الثبات والاستقامة على الهداية ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت/69 .
نسأل الله تعالى لك التوفيق والسداد والثبات .
والله أعلم .
تعليق