الحمد لله.
أولا :
إطلاق هذا السؤال : هل العبد مسير أو مخير ، لم يكن معروفا في كلام المتقدمين ؛ لحرصهم على التقيد بألفاظ الشرع ، وعدم الخروج عنها ، مع كونهم أهل لسان وفصاحة وحكمة .
قال ابن عثيمين رحمه الله :
" هذه العبارة لم أرها في كتب المتقدمين من السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، ولا في كلام الأئمة ، ولا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، أو ابن القيم أو غيرهم ممن يتكلمون ، لكن حدثت هذه أخيرا ، وبدءوا يطنطنون بها : " هل الإنسان مسير أم مخير؟ " انتهى .
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (3 / 215)
وسئل الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله :
هل الإنسان مسير أم مخير ؟
فأجاب :
" هذا اللفظ لم يرد في الكتاب ولا في السنة ، بل الذي دلاَّ عليه أن الإنسان له مشيئة ويتصرف بها ، وله قدرة على أفعاله ، ولكن مشيئته محكومة بمشيئة الله كما قال تعالى : ( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) التكوير/28، 29 فليست مشيئته مستقلة عن مشيئة الله ، ولفظ : مخير ومسير . لا يصح إطلاقهما ، فلا يقال : الإنسان مسير . ولا يقال : إنه مخير . بل لابد من التفصيل ، فإن أريد أنه مسير بمعنى أنه مجبور ولا مشيئة له ، ولا اختيار ، فهذا باطل ، وإن أريد أنه مسير بمعنى أنه ميسر لما خلق له ، وأنه يفعل ما يفعل بمشيئة الله وتقديره ، فهذا حق ، وكذلك إذا قيل إنه مخير وأريد أنه يتصرف بمحض مشيئته دون مشيئة الله ، فهذا باطل ، وإن أريد أنه مخير بمعنى أن له مشيئة واختيارًا وليس بمجبر ، فهذا حق " انتهى من موقع الشيخ .
http://albrrak.net/index.php?option=content&task=view&id=1155
وقال علماء اللجنة :
" الإنسان مخير ومسير ، أما كونه مخيرا فلأن الله سبحانه أعطاه عقلا وسمعا وبصرا وإرادة فهو يعرف بذلك الخير من الشر والنافع من الضار ، ويختار ما يناسبه ، وبذلك تعلقت به التكاليف من الأمر والنهي ، واستحق الثواب على طاعة الله ورسوله والعقاب على معصية الله ورسوله . وأما كونه مسيرا فلأنه لا يخرج بأفعاله وأقواله عن قدر الله ومشيئته " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (3 / 514)
وهذا يعني أن من له مشيئة وإرادة فهو مخير ، ولكن لا تخرج مشيئته وإرادته عن مشيئة وإرادة الله .
ومعلوم أن الملائكة لهم إرادة ومشيئة ، ولكنهم ليسوا في ذلك كالجن والإنس ، فهم مجبولون على الطاعة والإيمان ، وقد جاءت النصوص بأنهم يحبون ويكرهون ، وأنهم يستغفرون للذين آمنوا ، ويستغفرون لمنتظري الصلاة ، ويدعون للمنفقين بالخلف ، ويدعون على الممسكين بالتلف ، إلى غير ذلك .
وقال الله تعالى :
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة/30
هذا مع قولهم : ( سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ) البقرة/32
فلم يمنع قصر علمهم على ما علمهم الله أن يقولوا : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) وهو ما يدل على إرادتهم ومشيئتهم .
وروى البخاري (1339) ومسلم (2372) – واللفظ له - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أنه َقَالَ : ( جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَهُ : أَجِبْ رَبَّكَ . قَالَ فَلَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا ، قَالَ فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ : إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي . قَالَ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ ) ... الحديث .
فرجوع ملك الموت عليه السلام إلى الله تعالى ، وقوله : ( إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ ) دليل على أن له إرادة ومشيئة ، وليس في الحديث أنه كان يعلم ذلك سلفا .
وقال الإمام أحمد (10521) حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ وَيُونُسُ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يُونُسُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَدْ كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا ، قَالَ فَأَتَى مُوسَى فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَأَتَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ : يَا رَبِّ عَبْدُكَ مُوسَى فَقَأَ عَيْنِي ، وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَعَنُفْتُ بِهِ . وَقَالَ يُونُسُ : لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ ... ) الحديث . صححه الألباني في "مختصر العلو" (ص75)
فقوله : ( وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْكَ لَعَنُفْتُ بِهِ ) أو ( لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ ) دليل على أن له إرادة واختيار .
وروى البخاري (3470) ومسلم (2766) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ لَا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً . ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ ، فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ .
فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ ؛ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ . فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ . فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ ، فَقَالَ : قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ . فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ ) .
فهذا يدل على أنهم مخيرون ، ولهم إرادة في الفعل ومشيئة ، إلا أن ذلك منهم على وجه العصمة ، وعدم الخروج عما خلقوا لأجله من طاعة الله تعالى وعدم المخالفة .
وأمثال هذه النصوص كثير لا يحصى .
فالصواب أن يقال : نَصِفُ ملائكة الرحمن سبحانه وتعالى بما وصفهم به الله ، ونقتصر عليه ، ولا حاجة بنا إلى اختراع ألفاظ موهمة ، والاختلاف حولها ، والانشغال بذلك بما يوقع في الجدال والشقاق والنزاع .
ولا أسلم ولا أغنم من اتباع ألفاظ الشرع والاقتصار عليها .
قال الله عز وجل : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) الأنبياء / 26 - 29
وقال تعالى : ( عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) التحريم/ 6
وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير / 19 - 21
قال ابن كثير رحمه الله :
" أي : له وجاهة ، وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى .
قال قتادة : ( مُطَاعٍ ثَمَّ ) أي : في السموات ، يعني : ليس هو من أفناد الملائكة ، بل هو من السادة والأشراف ، مُعتَنى به ، انتخب لهذه الرسالة العظيمة .
وقوله : ( أَمِينٍ ) صفة لجبريل بالأمانة ، وهذا عظيم جدا أن الرب عز وجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله :
( وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ) .
"تفسير ابن كثير" (8 / 339)
ولكن هذا لا يمنع من القول بأن الملائكة عليهم السلام مخيرون ، غير أنهم لا يخرجون عن طاعة الله تعالى ؛ لأنهم مجبولون عليها ، مخلوقون لها ، ليس العصيان من صفاتهم .
كما أنهم مسيرون فيما لا قدرة لهم فيه ، كالحال في غيرهم من مخلوقات الله .
وينظر جواب السؤال رقم (138506) .
والله أعلم .
تعليق