الحمد لله.
أولاً:
الحديث المشار إليه في السؤال :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نبي إِلاَّ قَدْ أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الذي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
رواه البخاري ( 1044 ) ومسلم (152) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – وقد ذكر احتمالات في معنى الحديث - :
وقيل : المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ، فلم يشاهدها إلا من حضرها ، ومعجزه القرآن مستمرة إلى يوم القيامة ، وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته وأخباره بالمغيبات ، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه .
وهذا أقوى المحتملات ، وتكميله في الذي بعده .
وقيل : المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار ، كناقة صالح وعصا موسى ، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة ، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر ؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده ، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمراً.
" فتح الباري " (9/70) .
ثانياً:
أما الجواب عن سؤال " كيف كان القرآن معجزة للأعاجم الأميين الذي يشكلون غالبية سكان العالم وقتها ؟ " : فليُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث في العرب ، وقد كانوا يتميزون بالفصاحة والبلاغة ، فجعل الله تعالى آية النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما يتميز به قومه ، ليقع الإعجاز والتحدي موقعه ، كما حصل في آية موسى عليه السلام " العصا " ليقبل ما جاء به السحرة من خداع ، وكما في آية عيسى عليه السلام " إبراء الأكمه والأبرص " حيث كان الطب منتشراً في زمانهم .
وأما بخصوص الأعاجم – قديماً وحديثاً – وكيف كان القرآن معجزاً في حقهم ، وهل هم داخلون في التحدي به : فبيانه من وجوه :
1. ليس كل العرب على علم باللغة العربية وفصاحتها وبلاغتها ، كما لم يكن كل العجم على جهل باللغة العربية ، فيُعلم بذلك أن الإعجاز والتحدي هو للعالم منهم باللغة العربية ، سواء كان يعلمها من الأصل كالعرب ، أو تعلمها فيما بعد كالعجم ، وبه يتبين أن حال العجم هو كحال العرب الجاهلين بلغتهم .
قال أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله - :
فإن قيل :
إحياء الموتى وقلب العصى وما ينزل منزلتها جلي لا يشك فيه من شاهده ، عام بالإضافة إلى كل العقلاء لا يبقى معه ريب لأحدهم بل يحصل لهم العلم القطعي بذلك ، وليس كذلك ما ادعاه نبيكم من إعجاز القرآن ؛ إذ لا يحصل العلم بإعجازه لكل أحد ، بل إنما يحصل العلم بذلك عندكم ، وعلى زعمكم : للفصحاء من العرب ، وأما من ليس فصيحاً ، أو أعجميّاً لا يفقه لسان العرب : فلا يحصل له العلم بإعجازه ؛ فإن الأعجمي لو كلف أن يتكلم بكلمة واحدة من لسان العرب لم يقدر على ذلك ، فعدم قدرته على ذلك لا يدل على صدق المتحدَّى به ، وكذلك من ليس فصيحاً من العرب : لو كلف أن يأتي بكلام فصيح لم يقدر عليه ، فلا يكون ذلك معجزاً في حقه .
الجواب :
أن نقول : سنبين إن شاء الله وجوه إعجازه ، وأنها متعددة ، وأن منها ما يدركه الجفلا ويشترك في معرفة إعجازه أهل الحضارة والفلا ، فيكون هذا النوع كقلب العصى وإحياء الموتى ، ولو سلمنا جدلاً أنه معجز من حيث بلاغته وأسلوبه المخالف لأساليب كلامهم فقط لقلنا : إن العلم بإعجازه وإحياء الموتى وقلب العصى لا يحصل لكل العقلاء على حد سواء ، ولا في زمانٍ واحدٍ ، بل يحصل ذلك لمن علم وجه إعجاز ذلك الشيء المعجز ، حين يعرف أنه مما ليس يدرك بحيلة بشرية ، ولا يتوصل إلى ذلك بالإطلاع على خاصية .
وقد لا يبعد أن تقوم شبهة عند جاهل بصناعة الطب والسحر ، تمنعه من تحصيل العلم بالإعجاز ، فيقول : لعل موسى اطلع من السحر على شيء لم يعلمه السحرة ولا اطلعت عليه ، وكذلك عيسى : لعله وقع على خاصية بعض الأحجار ، أو بعض الموجودات ، فكان يفعل بها ما يظهر على يديه ، وهذه الشبهة إنما ممكن أن تظهر للجاهل بالطب والسحر ، وأما العالم بالطب وبالسحر : فلا تكون هذه شبهة في حقه ؛ لعلمه الذي حصل له بالذوق والممارسة ، بأن الذي جاء به هذا مما ليس يدرك بحيلة صناعية ولا بالوقوف على خاصية ؛ بل هو صنع خالق البرية ، وأنه أراد به التصديق لهذا المدعي ، والشهادة اليقينية ، فحصل من هذا : أن العلم بإعجاز إحياء الموتى وقلب العصى إنما يحصل أولاً للسحرة والأطباء ولا يحصل لكثير من الجهال بالطب والسحر الأغبياء ، فكذلك إعجاز القرآن ، ولا فرق : حصل العلم به لمن يعلم لسان العرب بالذوق ، بضرورة الفرق الذي بينه وبين لسان العرب ، فعلم أنه ليس داخلا تحت مقدور العرب ، وإذا عجز عنه العرب الفصحاء ، واللد البلغاء : فغيرهم أعجز ، كما أنا نقول : إذا عجز الأطباء عن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فغير الأطباء أولى ، وإذا عجز السحرة عن قلب العصى ثعباناً : فغير السحرة أعجز وأعجز .
وقولهم " إنما يعجز عنه العرب لا العجم " : معارض بأن يقال لهم : إنما يعجز عن إحياء الموتى الأطباء لا غيرهم ، وإنما يعجز عن قلب العصى السحرة لا غيرهم ، فبالذي ينفصلون به ننفصل ، بل نزيد عليهم في الانفصال بوجوه ترفع الأشكال ، فإنا سنبدي وجوهاً في إعجاز القرآن يدركها كل إنسان ، عجميّاً كان أو عربيّاً ، مجوسيّاً كان أو كتابيّاً ، وسنبينها إن شاء الله إثر هذا .
فقد حصل من هذا الكلام كله العلم بأن محمَّداً صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن ، وتحدى به وهو معجزة ، وكل من جاء بالمعجزة وتحدى بها : فهو صادق ، فالنتيجة معلومة وهي أن محمَّداً صلى الله عليه وسلم صادق .
" الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام " (ص326) .
2. وقال بعض أهل العلم : إن الإعجاز في كتاب الله تعالى ليس فقط في لفظه ، بل في المعاني وترتيبها وطريقة عرضها ، فالإعجاز والتحدي للعرب : باللفظ ، ولغيرهم : في عدم قدرة أحد من أي أهل لسان كان أن يأتي بكلام يشبه ذلك بأي لغة .
قال الجصاص – رحمه الله - :
قوله تعالى ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ) الآية فيه الدلالة على إعجاز القرآن ، فمن الناس من يقول : إعجازه في النظم على حياله ، وفي المعاني وترتيبها على حياله ، ويستدل على ذلك : بتحديه في هذه الآية العرب والعجم ، والجن والإنس ، ومعلوم أن العجم لا يُتحدون من طريق النظم ، فوجب أن يكون التحدي لهم من جهة المعاني وترتيبها على هذا النظام ، دون نظم الألفاظ .
ومنهم من يأبى أن يكون إعجازه إلا من جهة نظم الألفاظ ، والبلاغة في العبارة ، فإنه يقول : إن إعجاز القرآن من وجوه كثيرة منها : حسن النظم ، وجودة البلاغة في اللفظ والاختصار ، وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ، مع تعريه من أن يكون فيه لفظ مسخوط ومعنى مدخول ، ولا تناقض ولا اختلاف تضاد ، وجميعه في هذه الوجوه جار على منهاج واحد ، وكلام العباد لا يخلو ـ إذا طال ـ من أن يكون فيه الألفاظ الساقطة ، والمعاني الفاسدة والتناقض في المعاني ، وهذه المعاني التي ذكرنا من عيوب الكلام : موجودة في كلام الناس من أهل سائر اللغات ، لا يختص باللغة العربية دون غيرها ، فجائز أن يكون التحدي واقعاً للعجم بمثل هذه المعاني : في الإتيان بها عارية مما يعيبها ويهجنها من الوجوه التي ذكرناها ، ومن جهة أن الفصاحة لا تختص بها لغة العرب دون سائر اللغات وإن كانت لغة العرب أفصحها وقد علمنا أن القرآن في أعلى طبقات البلاغة فجائز أن يكون التحدي للعجم واقعا بأن يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة بلغتهم التي يتكلمون بها .
" أحكام القرآن " ( 5 / 34 ، 35 ) .
3. وجوه الإعجاز في كتاب الله كثيرة ، وليس فقط النظم والبلاغة ، ولذا قال بعض أهل العلم إن الإعجاز في كتاب الله الذي يشترك فيه الجميع وليس العرب وحدهم ، والذي تحدى الله تعالى به أن يُؤتى بمثله إنما ينطبق على هذه الوجوه ، ولذا تحدى الله تعالى به الجن مع الإنس أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، ومن هذه الوجوه : الإخبار المغيبات ووقت وقوعها – مثلاً - .
قال أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله - :
الوجه الثالث من وجوه إعجاز القرآن : ما تضمنه من الأخبار بالمغيبات قبل أن يحيط أحد من البشر بعلمها ، وبوقوع كائنات قبل وجودها ، وذلك أمر لا يُتوصل إلى العلم به إلا من جهة الصادقين الذين يخبرون عن الله تعالى ، ونحن نذكر منها مواضع على شرط التقريب والاختصار تغني عن التطويل والإكثار .
فمن ذلك : قوله تعالى ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون ) ؛ فهذه الآية من أوضح معجزاته صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك أن الله تعالى وعده بأن يدخله المسجد الحرام هو وقومه في حالة أمن ، ويفتح عليهم مكة على أحسن حال فما زالوا ينتظرون ذلك حى بلغ وقته وصدق وعده فدخلوا كما وعدهم وفتحوه على ما أخبرهم .
" الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام " (337) .
وفي المسألة أقوال أخرى ، وما أوردناه آنفاً كافٍ ، وهو أقوى ما قيل فيها ، وخلاصته :
أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي ، والقرآن عربي ، وقد بُعث وهو بين أظهر عربٍ فصحاء بلغاء ، فكانت آيته العظمى هي كتاب الله تعالى ، فأعجزهم لفظه وعبارته وأسلوبه وبلاغته ، فعلم العقلاء من الفصحاء والبلغاء أن هذا ليس كلام البشر ، فآمنوا .
وأما من كان من غير أهل الفصاحة والبلاغة من العرب ، أو كان من الأعاجم : فإنه يُذكر لهؤلاء معاني القرآن ، وأحكامه ، ووجوه إعجازه الأخرى التي يمكنهم فهمها وإدراكها ، فيحصل لهم من القناعة بحسب علمهم وفهمهم أن هذا ليس كلام البشر ، ولذا أسلم كثير من الأعاجم بسبب وقوفه على معنى آية كريمة ، ولا يمكن لهذا الأعجمي أن يفهم بلاغتها ، لكنَّ معناها كان سبب إسلامه ، والقصص في ذلك متواترة ، وفي عصرنا منها الكثير ، وإنما أسلم أولئك بعد أن علموا أن ما في الآيات لا يمكن لبشر أن يأتي به ، وأنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من الأجهزة والاكتشافات ما يمكنه من إخبار الناس بتلك العلوم بواسطتها ، فسلَّموا أن الأمر من وحي السماء ، فأسلموا ، وبه نعلم مدى انطباق الحديث الذي أشار إليه السائل مع الواقع .
والله أعلم
تعليق