الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024
العربية

هل في مسند الإمام أحمد بن حنبل أحاديث موضوعة ؟

159828

تاريخ النشر : 02-02-2011

المشاهدات : 49140

السؤال

بخصوص المسند للإمام أحمد بن حنبل : يقول أبو الفرج ابن الجوزي أن بعض الأحاديث الواردة في هذا المسند موضوعة . ما درجة هذا الكلام من الصحة ؟ جزاكم الله خيرا .

الجواب

الحمد لله.


أولا :
يختلف العلماء أحياناً في الحكم على بعض الأحاديث أنها موضوعة أو ليست موضوعة ، ولاختلافهم هذا أسباب كثيرة ، منها :
1- اختلافهم في رواة الحديث المعين ، فقد يكون الراوي عند بعض العلماء كذابا ، وعند آخرين متهما بالكذب ، وعند آخرين : ضعيفا جدا ، فيختلفون في الحكم على الحديث تبعاً لذلك .
2- كما يختلف العلماء في الحكم على متن الحديث ، فقد يرى بعض المحدثين أن هذا المتن منكر جدا ، لا ترد الشريعة بمثله ، وفيه من الغرائب والعجائب ما يؤكد وضعه ، بينما يرى آخرون أن المتن لا يبلغ تلك الدرجة من النكارة .
قال العلامة المعلمي رحمه الله :
" هذه قواعد يحسن تقديمها :
1- إذا قام عند الناقد من الأدلة ما يغلب على ظنه معه بطلان نسبة الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد يقول : باطل ، أو موضوع ، وكلا اللفظين يقتضي أن الخبر مكذوب عمدا أو خطأ ، إلا أن المتبادر من الثاني الكذب عمدا ، غير أن هذا المتبادر لم يلتفت إليه جامعو كتب الموضوعات ، بل يوردون فيها ما يرون قيام الدليل على بطلانه ، وإن كان الظاهر عدم التعمد .
2- قد تتوفر الأدلة على البطلان ، مع أن الراوي الذي يصرح الناقد بإعلال الخبر به لم يتهم بتعمد الكذب ، بل قد يكون صدوقا فاضلا ، ولكن يرى الناقد أنه غلط أو أدخل عليه الحديث .
3- كثيرا ما يذكر ابن الجوزي الخبر ، ويتكلم في راو من رجال سنده ، فيتعقبه بعض من بعده بأن ذاك الراوي لم يتهم بتعمد الكذب ، يعلم حال هذا التعقب من القاعدتين السابقتين .
نعم ، قد يكون الدليل الآخر غير كاف للحكم بالبطلان ، ما لم ينضم إليه وجود راو في السند معروف بتعمد الكذب ، ففي هذه الحال يتجه ذاك التعقب ". انتهى من " مقدمة التعليق على الفوائد المجموعة للشوكاني " (ص/7) دار الكتب العلمية .
وقال الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله :
" المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان عمدا أم خطأ ". انتهى من" توجيه النظر " (2/574) .
وقال الشيخ طارق عوض الله :
" ومن المعلوم أن نقاد الحديث كثيراً ما يحكمون على أحاديث أخطأ فيه بعض الرواة ، بأنها "ضعيفة جداً" ، أو " باطلة " ، أو " منكرة " ، أو " لا أصل لها " ، أو " موضوعة " ، مع أن رواتها الذين أخطئوا فيها ، لم يبلغوا في الضعف إلى حد أن يُترك حديثهم ، بل أحياناً يُطلقون هذه الأحكام الشديدة على أحاديث أخطأ فيها بعض الرواة الثقات ، غير متقيدين بحال الراوي المخطئ ، بل معتبرين حال الرواية سنداً ومتناً ، ونوع الخطأ الواقع فيهما ، أو في أحدهما ". انتهى من" الإرشادات " (ص/82) .
ثانيا :
إذا تقرر ما سبق عرفنا سبب وقوع الخلاف بين العلماء في اشتمال مسند الإمام أحمد بن حنبل على أحاديث موضوعة ، فأثبت ذلك بعضهم ، ونفاه آخرون ، والحقيقة أن الخلاف بين القولين هو في تعريف الحديث الموضوع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" من قد يغلط في الحديث ولا يتعمد الكذب : هؤلاء توجد الرواية عنهم في السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه .
بخلاف من يتعمد الكذب : فإن أحمد لم يرو في مسنده عن أحد من هؤلاء .
ولهذا تنازع الحافظ أبو العلاء الهمذاني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي : هل في المسند حديث موضوع ؟
فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع ، وأثبت ذلك أبو الفرج ، وبَيَّن أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة .
ولا منافاة بين القولين ، فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب بل غلط فيه ، ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع .
وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره وقالوا : إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل ، بل بينوا ثبوت بعض ذلك .
لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء .
وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق المصنوع الذي تعمد صاحبه الكذب ". انتهى من" مجموع الفتاوى " (1/248) .
فهذا وجه التوفيق بين القولين .
ومن تأمل أحاديث المسند أو بعضها ، وراجع أقوال أهل العلم في تلك الأحاديث ، تبين له أنه يشتمل على أحاديث شديدة الضعف وأن متونها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنها يمكن أن توصف بأنها موضوعة ، وإن كان الراوي لها لم يتعمد الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم .
بل هناك حديث رواه الإمام أحمد في المسند ، ونقل عنه ابن الجوزي أنه قال عنه : إنه كذب.
وهو حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا ) " المسند " (41/337) .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" قال أحمد بن حنبل : هذا الحديث كذب منكر . قال : وعمارة يروى أحاديث مناكير . وقال النسائي: هذا حديث موضوع ". انتهى من" الموضوعات " (2/13) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله – في الحديث السابق -:
" كفانا المؤنة شهادة أحمد بكونه كذباً ، فقد أبان علته ، فلا حرج عليه في إيراده مع بيان علته، ولعله مما أمر بالضرب عليه ؛ لأن هذه عادته في الأحاديث التي تكون شديدة النكارة ، يأمر بالضرب عليها من المسند وغيره ، أو يكون مما غفل عنه وذهل ؛ لأن الإنسان محل السهو والنسيان والكمال لله تعالى ". انتهى من" النكت " (1/472-473) .
ولهذا استقرت كلمة أهل العلم على أن مسند الإمام أحمد بن حنبل يشتمل على عدد يسير من الأحاديث التي يمكن أن توصف بالوضع ، أو على الأقل بشبه الوضع .
قال الحافظ العراقي رحمه الله :
" وأما وجود الضعيف فيه فهو محقق ، بل فيه أحاديث موضوعة ". انتهى من" التقييد والإيضاح " (ص/57) .
وقال الإمام الذهبي رحمه الله :
" فيه أحاديث معدودة شبه موضوعة ، ولكنها قطرة في بحر ". انتهى من" سير أعلام النبلاء " (11/329) .
وقال المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة لمسند الإمام أحمد :
" وأقل ما يقوله المتمكن في هذا الفن ، بعد النظر في هذه الأحاديث وما أجاب به العلماء عنها : إنها بالغة الضعف ، وكثير منها يعلم بطلان متونها بالبداهة ، فلا يمكن أن تشد أزرها تلك المتابعات والشواهد ". انتهى من" المسند " (1/77) طبعة مؤسسة الرسالة .
والأحاديث التي حكم عليها في هذه الطبعة بأنها " شبه موضوع " ثمانية أحاديث .
وصرح المحققون على حديث واحد فقط بأنه موضوع ، وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (عَسْقَلَانُ أَحَدُ الْعَرُوسَيْنِ ، يُبْعَثُ مِنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ ، وَيُبْعَثُ مِنْهَا خَمْسُونَ أَلْفًا شُهَدَاءَ وُفُودًا إِلَى اللهِ ، وَبِهَا صُفُوفُ الشُّهَدَاءِ ، رُءُوسُهُمْ مُقَطَّعَةٌ فِي أَيْدِيهِمْ ، تَثِجُّ أَوْدَاجُهُمْ دَمًا ، يَقُولُونَ : رَبَّنَا آتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ . فَيَقُولُ : صَدَقَ عَبِيدِي ، اغْسِلُوهُمْ بِنَهَرِ الْبَيْضَةِ ، فَيَخْرُجُونَ مِنْهُ نَقَاءً بِيضًا ، فَيَسْرَحُونَ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا) " المسند " (21/66) .
قال المحققون : " موضوع ، أبو عقال- واسمه هلال بن زيد بن يسار البصري نزيل عسقلان- مجمع على طرح حديثه ، وقال ابن حبان: روى عن أنس أشياء موضوعة ما حدَّث بها أنس قطّ ، لا يجوز الاحتجاج به بحال ... وقال الدولابي : هذا حديث منكر جداً ، وهو شبه حديث الكذّابين...وقد حكم على هذا الحديث ابنُ الجوزي والعراقي بالوضع ، وهو كما قالا ، ومحاولةُ الحافظ ابن حجر نفيَ تهمة الوضع عنه في "القول المسدد" ص 32-33 في غير محلّها " انتهى .
حديث آخر موضوع في المسند : حديث عمران بن حصين مرفوعا : ( أن علياً مني وأنا منه، وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي ) " المسند " (33/154) .
قال ابن تيمية في "منهاج السنة" (7/391-392) : هذا كذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . انتهى .
وقد بلغ عدد الأحاديث التي حكم عليها ابن الجوزي بالوضع – وهي في مسند الإمام أحمد – ثمانية وثلاثين حديثا ، حاول الحافظ ابن حجر العسقلاني الجواب عنها حديثا حديثا ، لكن كثيرا من أجوبته لا تسلم له ، ومع ذلك فقد أقر رحمه الله بوجود الموضوع أيضا ، كما أقر سابقا كل من الذهبي والعراقي .
فقال رحمه الله :
" ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث أو أربعة ، منها حديث عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفا . والاعتذار عنه أنه مما أمر أحمد بالضرب عليه فترك سهوا ، أو ضرب وكتب من تحت الضرب ". انتهى نقلا عن " تدريب الراوي " (1/173) .
وقال أيضا :
" ونجيب عنها أولا من طريق الإجمال : بأن الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شيء من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام ، والتساهل في إيرادها مع ترك البيان بحالها شائع ، وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا ". انتهى من" القول المسدد " (ص/11) .
وقال أيضا :
"والحق أن أحاديثه غالبها جياد ، والضعاف منها إنما يوردها للمتابعات ، وفيه القليل من الضعاف الغرائب الأفراد ، أخرجها ثم صار يضرب عليها شيئا فشيئا ، وبقي منها بعده بقية ، وقد ادعى قوم أن فيه أحاديث موضوعات...لا يتأتى القطع بالوضع في شيء منها ، بل ولا الحكم بكون واحد منها موضوعا ، إلا الفرد النادر ، مع الاحتمال القوى في دفع ذلك" انتهى من" تعجيل المنفعة " (ص/6) .
والحاصل : أن " المسند " للإمام أحمد بن حنبل يشتمل على بعض الأحاديث شديدة الضعف التي يمكن أن توصف بالوضع بناء على التوسع في مفهوم الحديث " الموضوع "، وهذا الذي يقرره كثير من العلماء المتخصصين في الحديث اليوم : كالدكتور إبراهيم اللاحم ، والدكتور سعد آل حميد .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب