الحمد لله.
أولاً:
قراءة عمر رضي الله عنه لآية سورة الجمعة ( فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ الله ) قد رواها الإمام البخاري عنه في صحيحه معلَّقة بصيغة الجزم ، ورواها مسندةً الإمامُ ابن جرير الطبري بإسناد صحيح ، وهي ليست موافقة لرسم المصحف العثماني ، وليست قراءة سبعية ، وقد ذهب بعض العلماء إلى عدِّها وجهاً تُقرأ به الآية ، وقال آخرون إنها قراءة تفسيرية ، وأنه أراد تفسير " السعي " في الآية وأنه ليس " المشي بسرعة " ، وقد وُجد في مصاحف بعض الصحابة مثل هذا فكانوا يفسرون بعض ألفاظ الآية بشرح تفسيري لها ، ويرويها بعض تلامذتهم على أنها قراءة للآية ، وإن كان الأظهر في هذه أنها قراءة لعمر رضي الله عنه ، كان يقرأ بها الآية ، وصح إسنادها إليه ؛ لكن ذلك لا يعني أنها بدل من الآية التي أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على إثباتها في مصحف عثمان ، وتواتر النقل بها بين المسلمين تواترا ضروريا قطعيا ، بل هي حرف كان يقرأ به عمر ، مع أنه لا ينكر ما سواه ، وما أثبت في المصحف هو حرف آخر في الآية ، وكل شاف واف ، لكن المثبت في المصاحف هو المقطوع بنقله وثبوته .
ثانياً:
وأما قولك " حديث عمر في السقيفة حيث قال : " كان القرآن 102700 حرفاً " . " الإتقان " للسيوطي ، ص 88 " : ففيه خطأ وتدليس ، أما الخطأ ففي كتابة عدد حروف حيث أن الوارد في عددها هو " مليون وسبعة وعشرون ألف حرف " ، وأما التدليس : فبذكرك للمتن بزيادة لفظة " كان " لتوهم وجود نقصان في القرآن ، وبذكرك للحديث بصيغة توهم أن السيوطي رحمه الله نقل هذا وأيَّده أو صححه ، وهو خلاف الواقع ، بل إن الرواية عن عمر مكذوبة وقد تكلم السيوطي نفسه على إسنادها ناقلاً نقد الذهبي لها – وقد قال الذهبي في " ميزان الاعتدال " ( 3 / 639 ) عن الحديث " خبر باطل " ووافقه ابن حجر العسقلاني في " لسان الميزان " ( 5 / 276 ) – ولم يكن ثمة حاجة لتفسير الحديث وهذه حاله ، وأما متنه : فغاية في النكارة ؛ فإن عدَّ حروف القرآن لم يثبت في حديث ، ولا كان من عمل الصحابة رضي الله عنهم .
قال السيوطي – رحمه الله - : " وأخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب مرفوعاً ( القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف فمن قرأه صابراً محتسباً كان له بكل حرف زوجة من الحور العين ) رجاله ثقات إلا شيخ الطبراني محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس تكلم فيه الذهبي لهذا الحديث " انتهى من " الإتقان في علوم القرآن " ( 1 / 242 ، 243 ) .
وقال الشيخ الألباني – رحمه الله - : " لوائح الوضع على حديثه ظاهرة ، فمثله لا يحتاج إلى كلام ينقل في تجريحه بأكثر مما أشار إليه الحافظ الذهبي ثم العسقلاني ؛ من روايته لمثل هذا الحديث وتفرده به ! " انتهى من " سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة " ( 9 / 71 ) .
وفي أصل مسألة عد حروف القرآن قال السيوطي – رحمه الله – : " وقد قال السخاوي : لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة ؛ لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان ، والقرآن لا يمكن فيه ذلك " انتهى من " الإتقان في علوم القرآن " ( 1 / 242 ) .
ثالثاً:
وأما قولك : " وقوله – أي : عمر بن الخطاب - : " لا يدّعيّن أحدٌ أن القرآن مكتمل لأنه قد فُقد معظمه " . تفسير " الدر المنثور " للسيوطي ، المجلد الأول ص 104 " : فالرد عليه : أنه لا أصل لهذه الجملة بهذا اللفظ في كتاب السيوطي " الإتقان " ولا في غيره من كتب المسلمين ، وأصل الجملة رواه سعيد بن منصور في " تفسيره " قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال " لا يقولن أحدكم : أخذت القرآن كله ، وما يدريه ما كله ، قد ذهب منه قرآن كثير ، ولكن يقول : أخذنا ما ظهر منه " انتهى .
والمقصود من كلام ابن عمر رضي الله عنهما : أنه لا يستطيع أحد الجزم بإحاطته بحفظ كل ما نزل من القرآن ؛ لأنه ثمة آيات نزلت ثم رفعت ، وهو ما يسمى " نسخ التلاوة " ، وقد صرَّح ابن عمر بذلك بنفسه في قوله " كان يكره أن يقول الرجل قرأت القرآن كله ؛ إنَّ منه قرآناً قد رُفع " كما في رواية " ابن الضرِّيس " عنه ، ولذا فقد روى هذا الأثر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاَّم وبوَّب عليه " باب ما رُفع من القرآن بعد نزوله ولم يثبت في المصاحف " ، وذكره السيوطي في كتابه " الإتقان " في " باب نسخ التلاوة " .
ولينظر – لمزيد بيان – جوابا السؤالين ( 110237 ) و ( 105746 ) .
رابعاً:
وأما قولك " وقول أبيّ بن كعب أن لديه في مصحفة سورتين زائدتين ، " الخَلع " و " الحَفد " . " الإتقان " للسيوطي المجلد الثاني ص 66 " : فالمقصود بما يسمَّى سورة " الخلع " هو " بسم الله الرحمن الرحيم . اللهم إنا نستعينك ونستغفرك . ونثني عليك ولا نكفرك . ونخلع ونترك من يفجُرك " ، وأما ما يسمَّى سورة " الحفد " فهي " بسم الله الرحمن الرحيم . اللهم إياك نعبد . ولك نصلي ونسجد . وإليك نسعى ونحفِد . نرجو رحمتك ونخشى عذابك . إن عذابك الجِدَّ بالكفار مُلحِق " .
ومعنى " وإليك نسعى ونحفِد " أي : نُسرع في طاعتك .
وأما الجواب عن كون السورتين كانتا في " مصحف أبيّ بن كعب " : فنعم يمكن أن يكون هذا ! لكن ليس على أساس أنهما من القرآن الذي استقر أمره بالعرضة الأخيرة ؛ فإن مصاحف الصحابة رضي الله عنهم كان فيها الشرح والفقه ، وكان فيها ما نُسخت تلاوته ، وهاتان السورتان كانتا مما نزل من القرآن ثم نسخت تلاوتهما ، وبقي بعض الصحابة يقرؤهما في قنوته ؛ لما احتوتاه من دعاء وثناء على الله ، ومن رغب أن يعرف ما استقر عليه الأمر ، فليعلم أن ما في المصحف الذي جمعه الصدِّيق ثم عثمان رضي الله عنهما هو المحفوظ الثابت المحكم ، وليس فيه هاتان السورتان ، ولذا لم يقرأهما أحد في الصلاة ، ولا ذُكر تفسير لهما ، ولا نقلت قراءات لحروفهما ، وكونهما كانتا سورتين ثم نسختا هو قول السيوطي نفسه ! .
قال السيوطي – رحمه الله - : " قال الحسين بن المنادي في كتابه " الناسخ والمنسوخ " : " ومما رُفع رسمُه من القرآن ولم يُرفع من القلوب حفظه سورتا " القنوت في الوتر " وتُسمَّى سورتي الخلع والحفد " انتهى من " الإتقان في علوم القرآن " ( 2 / 68 ) .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - : " ومثال نسخ الكتاب بالسنَّة : نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكماً بالسنة المتواترة ، ونسخ سورة " الخَلع " وسورة " الحَفد " تلاوة وحكماً بالسنة المتواترة ، وسورة الخلع وسورة الحفد : هما القنوت في الصبح عند المالكية ، وقد أوضح صاحب " الدر المنثور " – وهو السيوطي - وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نُسختا " انتهى من " أضواء البيان " ( 2 / 451 ) .
وقد نقل عن أبي بن كعب قراءتُه التي رواها نافع وابن كثير وأبو عمرو ، وغيرهم ، وليس فيها سورتا " الحفد والخلع " ، كما أن مصحفه كان موافقًا لمصحف الجماعة ، قال أبو الحسن الأشعري : " قد رأيت مصحف أنسٍ بالبصرة عند قومٍ من ولدِه فوجدتُه مساويًا لمصحف الجماعة ، وكان ولد أنسٍ يروي أنه خطُّ أنسٍ وإملاء أُبَي بن كعب " . انتهى .
وهذا كله على اعتبار صحة الرواية عن أبي بن كعب أنه عدَّ الدعاءين سورتين ، وإلا ففي ثبوت ذلك عنه نظر قوي ، فلم ينقل ذلك عنه بإسناد صحيح .
فخلاصة الجواب عن ذلك أن يقال : إما أنه لم يصح عن أبي بن كعب ، ومن ادعى ذلك فليذكر إسناده الصحيح إليه . أو يقال فيه ـ على افتراض صحته ـ : إنه من القرآن المنسوخ تلاوة ، الباقي لفظاً ، وبما أنه ثناء ودعاء ، فيصح القنوت به .
قال محمد بن عبد العظيم الزرقاني – رحمه الله - : " قال صاحب " الانتصار " ما نصه : " إن كلام القنوت المروي أن " أبيّ بن كعب " أثبته في مصحفه : لم تقم الحجة بأنه قرآن منزَّل ، بل هو ضرب من الدعاء ، وأنه لو كان قرآناً لنُقل إلينا نقل القرآن وحصل العلم بصحته " .
ثم قال :
" ويمكن أن يكون منه كلام كان قرآناً منزلاً ثم نسخ ، وأبيح الدعاء به وخلط بما ليس بقرآن .
ولم يصح ذلك عنه ، إنما روي عنه أنه أثبته في مصحفه ، وقد أثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء أو تأويل ا.هـ.
وهذا الدعاء هو القنوت الذي أخذ به السادة الحنفية ، وبعضهم ذكر أن أبيّاً رضي الله عنه كتبه في مصحفه وسماه سورة " الخَلع والحَفد " لورود مادة هاتين الكلمتين فيه، وقد عرفت توجيه ذلك.
والخلاصة :
أن بعض الصحابة الذين كانوا يكتبون القرآن لأنفسهم في مصحف أو مصاحف خاصة بهم ربما كتبوا فيها ما ليس بقرآن مما يكون تأويلاً لبعض ما غمض عليهم من معاني القرآن ، أو مما يكون دعاء يجري مجرى أدعية القرآن في أنه يصح الإتيان به في الصلاة عند القنوت أو نحو ذلك ، وهم يعلمون أن ذلك كله ليس بقرآن ، ولكن ندرة أدوات الكتابة ، وكونهم يكتبون القرآن لأنفسهم وحدهم دون غيرهم ، هوَّن عليهم ذلك ؛ لأنهم أمنوا على أنفسهم اللبس واشتباه القرآن بغيره ، فظن بعض قصار النظر أن كل ما كتبوه فيها إنما كتبوه على أنه قرآن ، مع أن الحقيقة ليست كذلك ، إنما هي ما علمت " انتهى من " مناهل العرفان في علوم القرآن " ( 1 / 271 ) .
وانظر مقالاً بعنوان " فيض الرب في الرد على من ادَّعى أن هناك سورتين زائدتين في مصحف أبيّ بن كعب " .
خامساً:
وأما قولك " أمّا سيد أنور شاه كشميري فقد قال : " إن تحليلي مبني على ما في " صحيح البخاري " من أن القرآن قد حُرفت فيه بعض الكلمات قصداً أو من دون قصد ، وذلك بشهادة عثمان رضي الله عنه . " فيض الباري " ، المجلد الثالث ، ص 395 ، تحت فصل " الشهادات " " : فنأسف أن نقول : إن هذا كذب لا أصل له لا عن سيد أنور ولا عن غيره من علماء المسلمين ! .
سادساً:
وأما قولك " أما عثمان فقد نقل عنه السيوطي في " إتقانه " في المجلد الأول صفحة 174 أنه قال : " هناك بعض الأخطاء في المصحف الذي لدينا اليوم " : فليس هذا نص كلامه ، ولم يثبت معناه عن عثمان رضي الله عنه ولا عن غيره من الصحابة ، ولو صحَّ فله معنى مستقيم ، وقد بينَّا هذا بتفصيل في جواب السؤال رقم ( 135752 ) فلينظر فهو مهم .
سابعاً:
وأما قولك " أما هشام بن عروة فيقول : سألت عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) و ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) و ( إنَّ هذان لساحران ) فقالت : " يا ابن أختي ! هذا عمل الكُتَّاب ، أخطؤوا في الكِتاب " . " الإتقان " المجلد الأول ، ص 183 ، 184 ، وقد قال عنه جلال الدين السيوطي أنه " صحيح على شرط الشيخين " : فالأثر غير صحيح عنها ، وبيان ذلك في جواب السؤال رقم ( 135752 ) .
ثامناً:
وأما قولك " وورد كذلك في " الدر المنثور " في المجلد الخامس ، ص 180 ، و " الإتقان " المجلد الثاني ، ص 25 " أن سورة الأحزاب كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم 200 آية ، ثم نقصت إلى ما هي عليه بعد جمع عثمان للمصحف " : ففي هذا اللفظ إيهام بالتحريف ! وأما اللفظ الصحيح فقد رواه ابن حبان في " صحيحه " ( 10 / 273 ) ، والحاكم في " مستدركه " ( 2 / 450 ) عَنْ زِرِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : " كَانَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ تُوَازِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَكَانَ فِيهَا : ( الشَّيْخُ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) " ورواه النسائي في " الكبرى " ( 4 / 271 ، 272 ) بمعناه ، وهو من أدلة نسخ التلاوة ، وقد مرَّ معنا فيما ذكرناه آنفاً وما أحلنا عليه ما يؤكد وقوع هذا النوع من النسخ .
تاسعاً:
وأما قولك " حديث عائشة : " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرِّمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، وتوفي رسول الله وهنَّ فيما يقرأ من القرآن " . رواه مسلم في كتاب الرضاع " : فهو صحيح ، وقد اشتمل هذا النقل على نوعين من أنواع النسخ ، الأول منهما : نسخ التلاوة والحكم وهو في الآية المنسوخة والتي فيها تحريم الرضاع بعشر رضعات ، والنوع الثاني : نسخ التلاوة دون الحكم وهو الآية المنسوخة والتي فيها تحريم الرضاع بخمس رضعات ، فمع رفعها وعدم وجودها إلا أنها اشتملت على الحكم الشرعي الصحيح الذي دلت عليه بالسنَّة المشرَّفة .
وغاية ما في قول عائشة رضي الله عنها " وتوفي رسول الله وهنَّ فيما يقرأ من القرآن " على أنه قد تأخر نسخ هذه الآية حتى أنه لم يبلغ بعضهم هذا النسخ ، ولكن عدم وجود هذه الآية في أي نسخة من نسخ مصحف عثمان رضي الله عنه يدل على أنها ليست من القرآن في عرضته الأخيرة ، ولذا لا يُعرف لها لفظ فضلاً عن قراءة أو تفسير .
قال النووي – رحمه الله - : " وقولها " فتوفى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهن فيما يُقرأ " هو بضم الياء من يقرأ ، ومعناه : أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدّاً حتى إنه صلى الله عليه وسلم توفى وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآناً متلواً لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده ، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى .
والنسخ ثلاثة أنواع ، أحدها : ما نُسخ حكمُه وتلاوته كعشر رضعات ، والثاني : ما نسخت تلاوته دون حكمة كخمس رضعات وكالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ، والثالث : ما نُسخ حكمه وبقيت تلاوته وهذا هو الأكثر ومنه قوله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم ) الآية " انتهى من " شرح مسلم " ( 10 / 29 ) .
وينظر جواب الحديث رقم 175355
عاشراً:
وأما قولك " فكيف يمكننا القول بعد كل هذا إن القرآن محفوظ ؟ " : فالجواب عليه : نعم ! نقول ذلك وبكل اطمئنان وثقة : إن القرآن محفوظ بحفظ الله تعالى له ، وإن مَن شك في ذلك فهو من الكافرين ، ليس في قلبه من الإيمان مثقال ذرة . وانظر تفصيل ذلك في جواب السؤال رقم ( 129170 ) .
والله أعلم
تعليق