الحمد لله.
أولا :
قال البخاري رحمه الله في صحيحه :
" وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ : رَأَيْتُنِي وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِي يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ حَتَّى يُجَاوِزَهُ " انتهى .
ووصله رحمه الله في "التاريخ الصغير" (1 /67) وكذا ابن عساكر في "تاريخه" (15/396) من طريق ابن إسحاق حدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال سمعت خارجة بن زيد بن ثابت .. فذكره .
وهذا إسناد ضعيف ، يحيى بن عبد الله الأنصاري هذا مجهول ، لا نعلم له راويا غير ابن إسحاق ، ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (8/284) وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/162) وابن حبان في "الثقات" (7/603) برواية ابن إسحاق فقط عنه ، ولم يوثقه أحد ، وذِكر ابن حبان إياه في الثقات لا يعد توثيقا معتبرا ؛ لأنه يذكر فيه المجهولين ومن يصرح بنفسه أنه لا يعرف من هو ولا من أبوه .
انظر كتاب "الثقات" له : (4/146) ، (6/418) .
فالرجل مجهول ، لا يُعتد بروايته .
وذِكر البخاري لهذا الأثر في صحيحه معلقا لا يعني أنه صحيح عنده ، فضلا عن كونه على شرطه .
ومن المعروف عنه رحمه الله أنه يذكر في صحيحه من المعلقات ما هو ضعيف ، ومنه ما يشير إلى ضعفه بتصديره بصيغة التمريض .
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
" معلقات البخاري ليست كلها صحيحة عنده فضلا عن غيره " انتهى من "تمام المنة" (ص 397) .
ولا يصح أن يقال عن الأحاديث المعلقة أنها مما رواه البخاري في صحيحه ، هكذا بإطلاق ، إنما يقال : رواه البخاري معلقا ، أو : ذكره البخاري في صحيحه تعليقا ، ونحو ذلك ؛ لأن هذه المعلقات ليست على شرط الصحيح .
قال الألباني رحمه الله :
" من المعروف عند أهل العلم أن في صحيح البخاري كثيرا من الأحاديث المعلقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض أصحابه ، فإذا أراد طالب العلم أن ينقل شيئا من هذه الأحاديث فلا يقول فيها : " روى البخاري " لأن هذا التعبير خاص بالأحاديث المسندة ، وإنما يقول : " قال البخاري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " ، ولا يقول في هذا الجنس " روى البخاري " كما ذكرنا ، إلا أن يقيد ذلك بقوله " روى البخاري معلقا " .
انتهى من "دفاع عن الحديث النبوي" (ص 20)
ثانيا :
قول الأخ السائل أن الحافظ ابن حجر أثبت صحته في الفتح قول غير صحيح ؛ فإن غاية ما قاله رحمه الله : " وَصَلَهُ الْمُصَنِّف فِي " التَّارِيخ الصَّغِير " مِنْ طَرِيق اِبْن إِسْحَاق " حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي عَمْرَة الْأَنْصَارِيّ سَمِعْت خَارِجَة بْن زَيْد " فَذَكَرَهُ , وَفِيهِ جَوَاز تَعْلِيَة الْقَبْر وَرَفْعه عَنْ وَجْه الْأَرْض " انتهى من "الفتح" (3/223) .
وليس في هذا الكلام ما يدل على تصحيحه لهذا الأثر .
ومما يدل على ضعف هذا الأثر أنه يبعد عن مثل خارجة بن
زيد بن ثابت رحمه الله – وهو من الفقهاء السبعة – أن يثب قبر عثمان بن مظعون رضي
الله عنه ؛ فإن هذا فعل منكر وعمل سفيه ، لا يفعله مثل خارجة بن زيد ، وخاصة أن
الرواية تقول أنه فعل ذلك حال شبابه ، وهو في شبابه كان مشغولا بطلب العلم وتحصيله
أشد الشغل ، مما جعله من الفقهاء المعدودين في المدينة ممن يرجع إليهم في الفتوى ،
مما يبعد معه وقوع مثل هذا التصرف المنكر منه .
وقد صح من حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : ( نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا وَأَنْ
يُبْنَى عَلَيْهَا وَأَنْ تُوطَأَ ) رواه مسلم (970) وأبو داود (3225) والنسائي
(2028) والترمذي (1052) – واللفظ له .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال : ( لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ
فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ ) رواه
مسلم (971) .
وروى الإمام أحمد (27918) عن عَمْرٌو بن حزم رضي الله عنه قَالَ : رَآنِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُتَّكِئٌ عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ
( انْزِلْ عَنْ الْقَبْرِ لَا تُؤْذِ صَاحِبَ الْقَبْرِ ) .
صححه الألباني في "الصحيحة" (2960) .
ولا شك أن هذا الوثب على القبر مما يؤذي صاحبه .
ثالثا :
تقدم في إجابة السؤال رقم (83133)
، (126400) بيان
أن المشروع رفع القبر عن الأرض قدر شبر واحد لا يزاد عليه . وأنه لا يجوز البناء
عليها .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (11/342) :
" لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ التُّرَابِ فَوْقَ
الْقَبْرِ قَدْرَ شِبْرٍ ، وَلاَ بَأْسَ بِزِيَادَتِهِ عَنْ ذَلِكَ قَلِيلاً عَلَى
مَا عَلَيْهِ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ ؛ لِيُعْرَفَ أَنَّهُ قَبْرٌ ،
فَيُتَوَقَّى وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ " انتهى.
وانظر : "الموسوعة الفقهية" (32/250) .
وعلى ذلك يحمل قول الحافظ المتقدم : " وَفِيهِ جَوَاز تَعْلِيَة الْقَبْر وَرَفْعه
عَنْ وَجْه الْأَرْض " .
رابعا :
البناء على القبور من الأفعال المنكرة والبدع المستحدثة المخالفة للسنة الثابتة في
القبور ، المخالفة للثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن البناء عليها ،
ثم هي ذريعة لتعظيم القبور وتعظيم أصحابها ، وهذا باب من أبواب الشرك بالله .
قال علماء اللجنة الدائمة :
" البناء على القبور بدعة منكرة ، فيها غلو في تعظيم من دفن في ذلك وهو ذريعة إلى
الشرك ، فيجب على ولي أمر المسلمين أو نائبه الأمر بإزالة ما على القبور من ذلك
وتسويتها بالأرض ؛ قضاء على هذه البدعة ، وسدا لذريعة الشرك " انتهى من "فتاوى
اللجنة الدائمة" (1 /413) .
راجع إجابة السؤال رقم (8991)
، (130919) .
خامسا :
قول السائل – نقلا عن أهل البدع من القبوريين - : إن الحديث الآخر الذي ورد فيه
النهي عن البناء على القبور إنما هو خاص باليهود والنصارى .
كلام فاسد غير معقول ؛ إذ كيف ينهى النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى عن
البناء على القبور ؟!
وإنما الصحيح : أن النهي عن البناء على القبور منهي عنه لأنه من فعل اليهود
والنصارى الذي كانوا يفعلون ذلك فيقعون في الشرك ؛ كما روى البخاري (434) ومسلم
(528) عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ
لَهَا مَارِيَةُ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ . فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا
مَاتَ فِيهِمْ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى
قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ ، أُولَئِكَ شِرَارُ
الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ ) .
راجع إجابة السؤال رقم (26312)
.
والله أعلم .
تعليق