الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

لماذا حثنا الشرع على الدعاء ، مع أن الله تعالى قد لا يستجيب للداعي ؟

السؤال

ورد في الحديث النهي عن قول الشخص في الدعاء : " اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت " ؛ لأن الله لا مُكره له . فإذا كان الأمر هكذا ، فلماذا حثنا الشرع على الدعاء إذاً ؟ بعبارة أخرى : لماذا ندعو إذا كان الله لن يستجيب لنا ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا :
روى البخاري (7477) ، ومسلم (2679) عن أبي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: ( لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، لاَ مُكْرِهَ لَهُ ) .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه : " إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ ، فَارْفَعُوا فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ مَا عِنْدَهُ لَا يَنْفَدُهُ شَيْءٌ ، وَإِذَا دَعَوْتُمْ فَاعْزِمُوا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ " .
انتهى من "جامع العلوم والحكم" (2/ 48) .
قال ابن بطال رحمه الله :
" فيه دليل أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ، ويكون على رجاء من الإجابة ، ولا يقنط من رحمه الله ؛ لأنه يدعو كريمًا ؛ فبذلك تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من " شرح صحيح البخاري " ، لابن بطال (10/99) .
وقال القرطبي رحمه الله :
" فِي قَوْلِهِ :" إِنْ شِئْتَ" نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَغْفِرَتِهِ وَعَطَائِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا فَافْعَلْ، لَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا إِلَّا مَعَ الْغِنَى عَنْهُ ، وَأَمَّا الْمُضْطَرُّ إِلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَعْزِمُ فِي مَسْأَلَتِهِ ، وَيَسْأَلُ سُؤَالَ فَقِيرٍ مُضْطَرٍّ إِلَى ما سأله " .
انتهى من" تفسير القرطبي " (2/ 312) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" والتحذير في التعليق من وجوه ثلاثة:
الأول: أنه يشعر بأن الله له مكره على الشيء ، وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه، فكأن الداعي بهذه الكيفية يقول: أنا لا أكرهك ، إن شئت فاغفر وإن شئت فلا تغفر.
الثاني: أن أقول القائل: " إن شئت " كأنه يرى أن هذا أمر عظيم على الله ، فقد لا يشاؤه لكونه عظيما عنده ، ونظير ذلك أن تقول لشخص من الناس - والمثال للصورة بالصورة لا للحقيقة بالحقيقة - أعطني مليون ريال إن شئت ، فإنك إذا قلت له ذلك، ربما يكون الشيء عظيما يتثاقله ، فقولك: إن شئت ، لأجل أن تهون عليه المسألة ، فالله - عز وجل - لا يحتاج أن تقول له : إن شئت؛ لأنه - سبحانه وتعالى - لا يتعاظمه شيء أعطاه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ) .
قوله: (وليعظم الرغبة) ، أي: ليسأل ما شاء من قليل وكثير ، ولا يقل: هذا كثير لا أسأل الله إياه ، ولهذا قال: ( فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ) ، أي: لا يكون الشيء عظيما عنده حتى يمنعه ويبخل به - سبحانه وتعالى - كل شيء يعطيه ، فإنه ليس عظيما عنده ، فالله - عز وجل - يبعث الخلق بكلمة واحدة ، وهذا أمر عظيم ، لكنه يسير عليه .
الثالث : أنه يشعر بأن الطالب مستغن عن الله ، كأنه يقول: إن شئت فأفعل، وإن شئت فلا تفعل فأنا لا يهمني " .
انتهى "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (10/ 917-918) .
وللفائدة : ينظر جواب السؤال رقم : (105366) .

ثانيا :
أمر الله عز وجل عباده بالدعاء ، ووعدهم الإجابة ، متى أخلصوا له الدعاء ، وافتقروا إليه ، فقال: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) غافر/ 60 .
وليس الشأن فيما عند الله من الخزائن والعطاء ؛ فإنها ملأى لا تنقِصُها نفقة ، ولا يكثر عليها عطاء ، ولا فيما عند الله من الوعد ؛ فإن الله جل جلاله : لا يخلف الميعاد ؛ لكن الشأن ، كل الشأن ، إنما هو في قيام العبد في مقام العبودية والرجاء ، وتحقيقه لحقيقة الدعاء ، والإتيان به ، كما أمر الله عباده أن يقوموا به ، والتخلي من موانع الإجابة ، وقواطع الطريق إلى الله تعالى .
فالدعاء عبادة لله جل جلاله ، من أجل العبادات ، وما من عبادة إلا ولها آداب ، ولها شروط ، ولها هيئات يستحب للعبد التحلي بها .
وما من سبب ، أيضا ، إلا وله موانع تعوقه عن مسببه ، وتضعف تأثيره .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" هل يجزم الداعي بالإجابة ؟
الجواب: إذا كان الأمر عائدا إلى قدرة الله ، فهنا يجب أن تجزم بأن الله قادر على ذلك، قال الله تعالى: ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) .
أما من حيث دعاؤك أنت ، باعتبار ما عندك من الموانع ، أو عدم توافر الأسباب : فإنك قد تتردد في الإجابة .
ومع ذلك ، ينبغي أن تحسن الظن بالله ؛ لأن الله - عز وجل - قال: ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ؛ فالذي وفقك لدعائه أولا سيمُنُّ عليك بالإجابة آخرا ، لا سيما إذا أتى الإنسان بأسباب الإجابة وتجنب الموانع ، ومن الموانع الاعتداء في الدعاء ، كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم ... " .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (10/ 918) .
ينظر أهم آداب الدعاء في جواب السؤال رقم : (36902) ، والأسباب التي تمنع من إجابة الدعاء ، في جواب السؤال رقم : (5113) .

ثالثا :
ليس بالضرورة حصول المطلوب على صورته ، حتى تكون الدعوة قد أجيبت ، لإجابة دعوة الداعي إذا دعا ربه ؛ فإن الاستجابة على أنواع : إما تعجل للسائل دعوته بخصوصها ، أو يصرف عنه من السوء بمثلها ، أو يدَّخر ذلك له أجراً وثواباً يوم القيامة .
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا ، قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ ؟ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَرُ ) .
رواه أحمد ( 10749 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب والترهيب ( 1633 ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" كل داع يستجاب له لكن تتنوع الإجابة : فتارة تقع بعين ما دعا به ، وتارة بعوضه ، وقد ورد في ذلك حديث صحيح " انتهى من "فتح الباري" (11 /95) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" على المرء أن يلح في الدعاء ، ويحسن الظن بالله عز وجل ، ويعلم أنه حكيم عليم قد يعجل الإجابة لحكمة ، وقد يؤخرها لحكمة ، وقد يعطي السائل خيرا مما سأل " انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (9 /353) .

والله تعالى أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب