الحمد لله.
أولاً :
لا شك أنه ينبغي على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر : أن يكون ممتثلا ما يأمر به ، منتهيا عما ينهى عنه.
قال القاضي أبو يعلى : " والأولى أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أهل الستر والصيانة والعدالة والقبول عند الناس ؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة رَهِبَه المأمور ، وربما استجاب إليه ورجع إلى قوله ... ؛ ولأن من هذه صفته فكلامه أوقع في النفوس وأقرب إلى القلوب" انتهى من رسالة " الأمر بالمعروف " (ص47).
إلا أن هذا لا يُعفي العاصي والمقصر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة التقصير في العمل أو الوقوع في بعض المنكرات .
فالذي عليه عامة العلماء من السلف والخلف : أنه لا يشترط فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر : أن يكون عدلاً في نفسه غير مرتكب لشيءٍ من المنكرات أو المعاصي ؛ لأن في هذا الشرط سداً لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمن ذا الذي يسلم من المعاصي والذنوب ؟!.
ولأن الواجب على الإنسان أمران : اجتناب المنكر ، والنهي عنه ، فإذا أخلَّ بأحدهما ، لا يسقط عنه الآخر .
قال أبو بكر بن العربي : " وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَقَالَتْ الْمُبْتَدِعَةُ : لَا يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ إلَّا عَدْلٌ .
وَهَذَا سَاقِطٌ ؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ مَحْصُورَةٌ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْخَلْقِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ" انتهى من "أحكام القرآن" (1/349) .
وقال النووي رحمه الله : " قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْحَالِ ، مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ ، مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ ، بَلْ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ ، وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ .
فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ : أَنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ وَيَنْهَاهَا ، وَيَأْمُرَ غَيْرَهُ وَيَنْهَاهُ ، فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا ، كَيْفَ يُبَاحُ لَهُ الْإِخْلَالُ بِالْآخَرِ؟! " انتهى من " شرح صحيح مسلم " (2/23) .
وقال الحافظ ابن حجر : " وَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا مَنْ لَيْسَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ الْأَوْلَى فَجَيِّدٌ ، وَإلَّا فَيَسْتَلْزِمُ سَدَّ بَابِ الْأَمْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ" انتهى من "فتح الباري" (13/53).
وقال السفاريني : " لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ : أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ عَدْلًا فِي الْمُعْتَمَدِ ، بَلْ الْإِمَامُ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالْعَالِمُ ، وَالْجَاهِلُ ، وَالْعَدْلُ ، وَالْفَاسِقُ : فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
نَعَمْ ، يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَالِفَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ ، بَلْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَأْتَمِرُ بِهِ ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَنْزَجِرُ عَنْهُ .
فَإِنْ قَلْت: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَوْ الْآثَارُ الصَّرِيحَةُ تُعَيِّنُ اعْتِبَارَ عَدَالَةِ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ.
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ ، وَنَحْنُ نَقُولُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا عَدْلًا، وَلَكِنْ فَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَلَوْ لَمْ يَعِظْ النَّاسَ إلَّا مَعْصُومٌ أَوْ مَحْفُوظٌ لَتَعَطَّلَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعَ كَوْنِهِ دِعَامَةَ الدِّينِ.
وَقَدْ قِيلَ:
إذَا لَمْ يَعِظْ النَّاسَ مَنْ هُوَ مُذْنِبٌ *** فَمَنْ يَعِظُ الْعَاصِينَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إنَّ فُلَانًا لَا يَعِظُ وَيَقُولُ : أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ.
فَقَالَ الْحَسَنُ: وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ؟ وَدَّ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِهَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ.
وَالْحَاصِلُ : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّ أَمْرٍ حَتَّى عَلَى جُلَسَائِهِ وَشُرَكَائِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَعَلَى نَفْسِهِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ النَّاسَ مُكَلَّفُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ" انتهى من "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" (1/215) .
ثانياً :
وردت بعض النصوص الشرعية التي قد يُفهم منها أن من شروط من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون مؤتمراً به ومنتهياً عنه ، ومن ذلك :
1- قول الله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) .
2- وقوله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) .
3- ما ورد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ : أَيْ فُلاَنُ مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟
قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ) رواه البخاري (3267) ، ومسلم (2989).
4- وحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ.
فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟
قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) رواه الإمام أحمد (13515) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (291).
فهذه النصوص الشرعية قد يفهم بعض الناس منها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يكن الآمر والناهي على قدرٍ من الاستقامة والطاعة أو ملتزماً بما يأمر به وينهى عنه على الأقل .
والجواب عن ذلك :
أن المقصود من هذه النصوص ذم من يترك فعل المعروف الذي يأمر به ، وذم من يرتكب المنكر الذي ينهى عنه ، وليس فيها ذمه على الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر.
فهي ذمٌ له على تركه فعلَ ما يأمر به ، لا على أمره بما لا يفعله ، وفرق ظاهر بين الأمرين!
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) : " اعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّوْبِيخَ فِي الْآيَةِ بِسَبَبِ تَرْكِ فِعْلِ الْبِرِّ ، لَا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْبِرِّ " انتهى من "تفسير القرطبي" (1/366) .
وقال الحافظ ابن كثير : " وَالْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى خَطَئِهِمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ ، حَيْثُ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْخَيْرِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ : ذَمُّهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ بِالْبِرِّ مَعَ تَرْكِهِمْ لَهُ ، بَلْ عَلَى تَرْكِهِمْ لَهُ .
فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفٌ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ وَالْأَوْلَى بِالْعَالِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ أَمْرِهِمْ بِهِ ، وَلَا يَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ ، كَمَا قَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
فَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَفِعْلِهِ : وَاجِبٌ ، لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِتَرْكِ الْآخَرِ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعَاصِي لَا يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهَا ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ تَمَسُّكُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعَالِمَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِنِ ارْتَكَبَهُ .
قَالَ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ : سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ لَهُ : لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ ، مَا أَمَرَ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ.
قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ ، مَنْ ذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ؟
قُلْتُ : وَلَكِنَّهُ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مَذْمُومٌ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ وَفِعْلِهِ الْمَعْصِيَةَ ، لِعِلْمِهِ بِهَا وَمُخَالَفَتِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ ؛ وَلِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ" انتهى من "تفسير القرآن العظيم" (1/248).
وقال أبو بكر ابن العربي : " إنَّمَا وَقَعَ الذَّمُّ هَاهُنَا عَلَى ارْتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ ، لَا عَنْ نَهْيِهِ عَنْ الْمُنْكَرِ" انتهى من "أحكام القرآن" (1/349) .
وقال الشيخ خالد السبت : " وقع الذم في تلك النصوص والوعيد على ارتكاب ما نَهى عنه الناهي عن المنكر ، ولم يقع الذم على نفس النهي عن المنكر ، بل هذا يُحمد ولا يذم ، فهو طاعة لله عز وجل وقربة ، ولا شك أن وقوع المنكر ممن ينهى عنه أقبح من وقوعه ممن لا يعلم أنه منكر أو علم ولم يدع إلى تركه ، وهذا لا يعني إعفاءه من الأمر والنهي ". انتهى من " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصوله وضوابطه " (ص 165).
والحاصل :
أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الإسلام الظاهرة ، وهي لا تسقط عن الإنسان بسبب تقصيره وإخلاله ببعض الواجبات وارتكابه بعض الذنوب .
ولا شك أن أنفع الناس في أمره ونهيه وأحسنهم في دعوته : من كان ممتثلاً ما يأمر به ، مجتنباً ما ينهى عنه كما هي حال المرسلين ، قال شعيب عليه السلام : (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).
وفي هذا يقول أبو الأسود الدؤلي :
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا *** فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى *** بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
وينظر جواب السؤال (175916) ، (11403) ، (112164) .
والله أعلم
تعليق