الحمد لله.
أولا :
من المعلوم المقرر عند جميع المسلمين : أن الكذب حرام كله ، بل قبح الكذب وتحريمه أمر قد اتفقت عليه الأديان ، وتقرر في الفطر السليمة ، أيا كانت ملة صاحبه !!
والواجب على المسلم أن يكون صادقا في كلامه في جميع أحواله .
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ التوبة / 119 .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا رواه البخاري ( 6094 ) ، ومسلم (2607) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا ؛ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ رواه البخاري ( 34 ) ، ومسلم (58) .
ثانيا :
ثبت النهي عن الكذب في المزاح في السنة المطهرة :
فعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ ، وَيْلٌ لَهُ ، وَيْلٌ لَهُ رواه أبو داود (4990 ) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح أبي داود " ( 4990) .
كما جاء أيضا الحث على ترك الكذب في المزاح :
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ رواه أبو داود ( 4800 ) ، وحسنه الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " برقم (273) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود قَالَ : " لاَ يَصْلُحُ الْكَذِبُ فِي جِدٍّ وَلاَ هَزْلٍ ، وَلاَ أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ شَيْئًا ثُمَّ لاَ يُنْجِزُ لَهُ " رواه البخاري في " الأدب المفرد " (387 ) .
ثالثا :
المزاح من حيث الصدق والكذب له عدة صور :
الصورة الأولى : أن يكون المزاح صدقا لا كذب فيه . فهذا المزاح : الأصل فيه الإباحة ، متى كان في الوقت بعد الوقت ، ولم يغلب على صاحبه ، أو يؤد إلى مفسدة راجحة .
قال النووي رحمه الله تعالى :
" قال العلماء: المزاح المنهيّ عنه ، هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه ، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب ، ويشغل عن ذكر الله تعالى والفكر في مهمات الدين ، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء ، ويورث الأحقاد ، ويسقط المهابة والوقار . فأما ما سلم من هذه الأمور ، فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعله في نادر من الأحوال لمصلحة ، وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته ، وهذا لا مانع منه قطعا ، بل هو سنة مستحبة إذا كان بهذه الصفة " .
انتهى من " الأذكار " ( ص 377 ) .
الصورة الثانية : أن يكون المزاح كذبا ؛ فهذه الصورة من المزاح ورد النهي عنها كما في حديث بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ السابق ذكره .
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" عمن يتحدث بين الناس بكلام وحكايات مفتعلة ، كلها كذب ؛ هل يجوز ذلك ؟
فأجاب : أما المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس ، أو لغرض آخر : فإنه عاص لله ورسوله وقد روى بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الذي يحدث فيكذب ليضحك القوم ؛ ويل له ، ويل له ، ثم ويل له ) وقد قال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ، ولا يعد أحدكم صبيَّه شيئا ثم لا ينجزه .
وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلم وضرر في الدين ؛ فهو أشد تحريما من ذلك . وبكل حال : ففاعل ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك . والله أعلم " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 32 / 255 – 256 ) .
وفي " فتاوى اللجنة الدائمة " ( 26 / 52 ترقيم الشاملة ) :
" سؤال : هل إذا مثلا كذبنا كذب مزح ، حرام أم لا ؟
الجواب : نعم ، حرام ، بل كبيرة من كبائر الذنوب ، ولو كان مزحا .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
عبد الله بن قعود، عبد الله بن غديان، عبد الرزاق عفيفي، عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى .
الصورة الثالثة : المزاح بذكر قصص مع عدم التيقن من صدقها وهي ممكنة الحدوث ، والظاهر من صنيع أهل العلم جواز هذه الصورة ، فنجد في كتب بعض أهل العلم ذكر طرائف مضحكة منسوبة لأشخاص في القرون السابقة ، مع تعذر القطع بصحتها ، فليس فيها تعمد للكذب ، ولا نقل له ، وإن لم يتحر ناقلها الصواب والصدق فيما نقله .
قال الشيخ عبد المحسن الزامل :
" فالأحوال – للطرائف والنكت – ثلاثة :
حال نعلم صحته ، هذا لا بأس به ، بشرط أن يكون المحكي ليس محرما أو استهزاء أو غيبة ، لا بد أن يَسلم من هذه الأشياء ، فإن كان حكاية مباحة لا محذور فيها ، وهي واقعة ، أو يغلب على الظن وقوعها : لا بأس.
الحال الثاني : يعلم أنها كذب وليست واقعة ، هذه لا يجوز حكايتها .
الحال الثالث : يجهل ، لا يدري : هذه لا بأس بها .
ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام - : ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، ومن الحديث عنهم العجائب والغرائب الواقعة ، فأمر بالحديث ، وأخبر أنه ما يحكى عنهم من الحكايات فيه ما هو أعجب .
وقد روى أبو داود بإسناد جيد أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يحدث عن بني إسرائيل بعد صلاة العشاء ، لا يقوم إلى عُظْم ، إلا إلى صلاة .
هذا يبين أنه ربما حدثهم بعد صلاة العشاء ليلا طويلا ، عليه الصلاة والسلام .
وهذه الحكايات التي لا تُعلم ، كما تقدم أنها لا بأس بها ، إذا لم يُعلم كذبها ، كما نبه على ذلك ابن كثير وجماعة من أهل العلم " انتهى.
الصورة الرابعة : الطرائف الخيالية ، والتي يعلم المستمعون أنها خيال ، ولم تحدث في الواقع ..
فهذه الطرائف المسلية إن كانت تخترع أو تقص لمصلحة مرجوة ، كاستعمالها وسيلة للتربية والتعليم ونحو ذلك ، فقد أفتى عدد من أهل العلم بجوازها .
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى :
" هذه القصص التمثيلية ، من قبيل ما كتبه علماؤنا المتقدمون من المقامات التي تُقرأ في المدارس الدينية وغير الدينية ، كمقامات البديع ومقامات الحريري ... فهو يقول – أي الحريري – إنه لم يعرف عن أحد من علماء الأمة إلى زمنه أنه حرم أمثال تلك القصص التي وضعت عن الحيوانات ، ككتاب "كليلة ودمنة" وغيره ؛ لأن المراد بها الوعظ والفائدة ، وصورة الخبر في جزئياتها غير مرادة ، وما سمعنا بعده أيضا أن أحداً من العلماء حرم قراءة مقاماته " انتهى من " فتاوى الإمام محمد رشيد رضا " ( 3 / 1091 – 1092 ) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" الإنسان إذا ضرب مثلاً بقصة ، مثل أن يقول : أضرب لكم مثلاً برجل قال كذا أو فعل كذا وحصلت ونتيجته كذا وكذا ، فهذه لا بأس بها ، حتى إن بعض أهل العلم قال في قول الله تعالى : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) الكهف / 32 . قال: هذه ليست حقيقة واقعة ، وفي القرآن : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) الزمر / 29 . فإذا ذكر الإنسان قصة لم ينسبها إلى شخص معين ، لكن كأن شيئاً وقع ، وكانت العاقبة كذا وكذا ، فهذا لا بأس به.
أما إذا نسبه إلى شخص وهي كذب : فهذا حرام تكون كذبة ، وكذلك إذا كان المقصود بها إضحاك القوم ، فإنه قد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( ويل لمن حدث فكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له ) انتهى من " لقاء الباب المفتوح " (77 / 23 ترقيم الشاملة).
وسُئل الشيخ ابن جبرين رحمه الله تعالى :
" انتشر عند بعض الأخوة الطرائف التي فيها الكذب لأجل إضحاك الناس وعند مناصحتهم يقولون : يجوز أن تقول الطرفة إذا كان بالإمكان أن تقع ، ولو لم تعلم بها.. فهل هذا صحيح؟
فأجاب :
تُطلق الطرائف على الحكايات الغريبة ، والغالب أنها تكون واقعية ، وقد تكون خيالية يُقصد منها ضرب المثل كما فعل الحريري في مقاماته ، وكذا غيره ممن كتب في هذه الطرائف .
ولكن ورد النهي عن الكذب لأجل إضحاك الناس ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ويل للذي يُحدث فيكذب ليضحك الناس، ويل له، ويل له ) .
فأما إذا عرف الحاضرون أن هذا تخيل ليس بواقع ، ولكن يُمكن أن يقع ، فيكون فيه تحذير مما قد يقع مثل ذلك ، أو فيه استعداد لمثل هذه الوقائع فيكون ذلك على الإباحة . والله أعلم " انتهى .
ولمزيد الفائدة راجعي الفتوى رقم ( 174829 ) .
فالذي يفهم من فتوى الشيخين ابن عثيمين وابن جبرين رحمهما الله تعالى ؛ أن هذا الجواز مقيد بكون هذه القصة الخيالية تساق للفائدة والعبرة ، وغير منسوبة لشخص بعينه ، أمّا إذا نسبت لشخص معين أو اخترعت لمجرد الإضحاك فهذا لا يجوز .
وإلى نحو هذا التفصيل ذهب من قبل : ابن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله تعالى ؛ حيث قال :
" في الحديث الصّحيح ( حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، وفي رواية ( فإنّه كانت فيهم أعاجيب ) : هذا دالّ على حلّ سماع تلك الأعاجيب للفُرجة ، لا للحجّة اهـ . ومنه يؤخذ حلّ سماع الأعاجيب والغرائب ، من كلّ ما لا يتيقّن كذبه ، بقصد الفرجة ؛ بل وما يتيقّن كذبه ، لكن قصد به ضرب الأمثال والمواعظ وتعليم نحو الشّجاعة على ألسنة آدميّين أو حيوانات " انتهى من " تحفة المحتاج بشرح المنهاج " ( 9 / 398 ) .
الصورة الخامسة : ما ذكر في السؤال : " وهل يجوز المزاح بقول كلام ساخر كأن يشير الشخص من خلال نبرة الصوت أنّ ما يعنيه خلاف ما يقوله ؟ " ، فالذي فهمناه من هذه الصورة ؛ مثل أن يسأل رجل صديقه هل عندك كذا ؟ فيجيب الصديق : لا ؛ لكن بنبرة صوتية مازحة يفهم منها السائل أن المعنى : نعم .
فهذه الصورة إذا نظرنا فيها للكلمة من حيث هي فهي كذب ؛ لأن " لا " عكس " نعم " .
لكن إذا نظرنا إليها من حيث فهم السامع قد لا تكون كذبا ، لأن السامع وصل إليه المعنى الصادق ، ولأن الكلمة في اللغة قد تكتسب معنى آخرا بالنظر إلى الحال الذي قيلت فيه والطريقة التي نطقت بها , فمثلا كلمة " ما هذا ؟ " هي بمعنى السؤال ، وقد ينطقها الإنسان أحيانا بنبرة صوتية معينة فيفهم منها التعجب ، أو الإنكار ، أو نحو ذلك .
ويشبه هذا ما روي عن الإمام الشعبي رحمه الله تعالى ؛ أنّ رجلا مغفّلا لقي الشعبي ومعه امرأة تمشي ، فقال : أيّكما الشعبي ؟ قال : هذه . وأهل العلم يذكرون هذه القصة ، وقد ذكرها الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء ( 4 / 311 ) ولم يعلق عليها بشيء .
فهذه الصورة مشتبهة ، ولم نقف على نص لأهل العلم فيها ، والأقرب فيها الرخصة والجواز ، خاصة مع قوة القرينة وظهورها في بيان المراد ؛ وإن كان الأولى تركها اتقاء للشبهات ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ ... البخاري ( 52 ) .
والله أعلم .
تعليق