الحمد لله.
أولاً :
ورد في عدد من الأحاديث أمر الكافر إذا أسلم بحلق شعره ، ولكن لا يصح من هذه الأحاديث شيء.
قال الإمام عبد الرزاق الصنعاني في "مصنفه" (10/317) : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ , قَالَ : أُخْبِرْتُ عَنْ عُثَيْمِ بْنِ كُلَيْبٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدِّهِ : " أَنَّهُ جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ : قَدْ أَسْلَمْتُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ) " .
ومن طريق عبد الرزاق رواه الإمام أحمد في مسنده (15432) ، وأبو داود في سننه (356) .
وهذا السند ضعيف جداً ؛ لاشتماله على ثلاثة مجاهيل : شيخ ابن جريج الذي لم يُسمَّ في السند ، وعثيم بن كثير ، وأبيه كثير بن كليب .
بل قد قيل إن شيخ ابن جُريج في هذا الحديث هو : إبراهيم بن أبي يحيى ، وهو متروك ومطعون فيه عند جمهور المحدثين .
ينظر: "الجرح والتعديل" (2/125) ، "تهذيب التهذيب" (1/158).
قال ابن القيم : " إبراهيم هذا متفق على ضعفه بين أهل الحديث ما خلا الشافعي وحده " .
انتهى من " تحفة المودود " (ص: 170).
قال ابن عدي : " وهذا الذي قاله ابْنُ جُرَيج فِي هَذَا الإِسْنَادِ ( وَأَخْبَرْتُ عَنْ عُثَيْمَ بْنَ كُلَيْبٍ) : إِنَّمَا حَدَّثَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيى ، فَكَنَّى عَنِ اسْمِهِ " .
انتهى من " الكامل في ضعفاء الرجال" (1/361).
وقال ابن طاهر المقدسي : " وَالرجل الَّذِي كنى عَنهُ هُوَ إِبْرَاهِيم هَذَا ، وهو ضعيف جداً ، وَهُوَ رَوَاهُ عَن عثيم بن كثير بن كُلَيْب" انتهى من " ذخيرة الحفاظ" (1/457).
وقال ابن القطان : " إِسْنَاده غَايَة فِي الضعْف مع الِانْقِطَاع الَّذِي فِي قَول ابْن جريج : أخْبرت ، وَذَلِكَ أَن عثيم بن كُلَيْب وأباه وجده : مَجْهُولُونَ .
وَمَعَ هَذَا فليته بَقِي هَكَذَا ، بل فِيهِ زِيَادَة لَا أَقُول أَنَّهَا صَحِيحَة ، وَلكنهَا مُحْتَملَة ، وَهِي أَن من الْمُحدثين من قَالَ : إِن ابْن جريج الْقَائِل الْآن : أخْبرت عَن عثيم بن كُلَيْب ، إِنَّمَا رَوَاهُ لَهُ عَن عثيم بن كُلَيْب: إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى ، وَهُوَ من قد عُلم ضعفه ، وَأُمُور أخر رمي بهَا فِي دينه ". انتهى من " بيان الوهم والإيهام" (3/43) بتصرف يسير
وقال محققو "مسند الإمام أحمد" : " عُثيم بن كليب ، ينسب إلى جده ، وهو عثيم بن كثير بن كليب الحضرمي ، روى عنه جمع ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الذهبي في الكاشف : وثق ، وقال الحافظ في التقريب : مجهول ، ووالده لم نقع له على ترجمة ، وبقية رجاله ثقات " انتهى
وللحديث شاهد من حديث واثلة بن الأسقع :
أخرجه الطبراني في " المعجم الصغير " (2/117) ، و " المعجم الكبير " (199) من طريق مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَعْرُوفٌ أَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ : " لَمَّا أَسْلَمْتُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لِي : ( اغْتَسِلْ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاحْلِقْ عَنْكَ شَعَرَ الْكُفْرِ) " .
قال الطبراني: " لَمْ يروَ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، تَفَرَّدَ بِهِ مَنْصُورُ بْنُ عَمَّارٍ" انتهى.
قال الهيثمي : " وَفِيهِ مَنْصُورُ بْنُ عَمَّارٍ الْوَاعِظُ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ " انتهى من "مجمع الزوائد" (1/283).
وكذلك ضعف هذه الرواية الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/168) .
وله شاهد ثانٍ رواه الطبراني
في " المعجم الكبير " (19/14) من طريق قَتَادَةُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ قَتَادَةَ
الرَّهَاوِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، حَدَّثَنِي عَمُّ أَبِي هَاشِمِ بْنِ قَتَادَةَ
الرَّهَاوِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: " أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ.
فَقَالَ لِي : ( يَا قَتَادَةُ اغْتَسَلْ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَاحْلِقْ عَنْكَ
شَعَرَ الْكُفْرِ) " .
قال الهيثمي : " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ"
انتهى من "مجمع الزوائد" (1/283).
وضعفه الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/ 168) .
قال الشيخ الألباني: " تبين لي صواب تضعيف الحافظ لإسناده ، وخطأ توثيق شيخه
الهيثمي لرجاله ، لأن عمدته في ذلك على ابن حبان ، فقد أورد كلا من (هاشم بن قتادة
الرهاوي) و(الفضل بن قتادة الرهاوي) في ثقاته (5/503) و (7/317) .
ومن المعروف تساهل ابن حبان في التوثيق ، ولاسيما والرجلان لا يُعرفان إلا بهذا
الإسناد " انتهى من " سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6/1181) .
ثم اختار الشيخ الألباني رحمه الله تعالى تحسين الحديث بهذه الشواهد .
والذي يظهر أن ما ذهب إليه
الحافظ ابن حجر وغيره من العلماء من تضعيف الحديث : أرجح ، حيث إن طرقه لا تخلو من
ضعف لا يقوى على الانجبار .
وممن ضعف الحديث من العلماء المحققين : ابن طاهر المقدسي في " ذخيرة الحفاظ"
(1/457) ، والنووي في "المجموع" (2/154) ، وابن دقيق العيد في " الإمام" (1/417) ،
والذهبي في " " تنقيح التحقيق" (2/264) ، والحافظ ابن كثير في " إرشاد الفقيه"
(1/34) ، والحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/168) ، والسيوطي في "الجامع الصغير"
(1580) ، والمباركفوري في "تحفة الأحوذي" (2/529) ، والشوكاني في "الفتح الرباني"
(9/4507) .
ثانياً :
استحب جمهور العلماء للكافر إذا أسلم : أن يحلق شعر رأسه . ينظر: "الموسوعة
الفقهية" (18/101).
قال السِّنْدي: "حملوا الأمر على الاستحباب ، فقالوا : يستحب إذا أسلم الكافر أن
يزيل شعره بحَلْقٍ أو قصر، والحلق أفضل" انتهى من "حاشية مسند الإمام أحمد"
(8/292).
وقال النووي : " يُسْتَحَبُّ لِلْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَ
رَأْسِهِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ" انتهى من "المجموع شرح
المهذب" (2/154) .
بل قال بعضهم باستحباب حلق جميع الشعور ما عدا شعر اللحية .
وفي " حاشية البجيرمي على الخطيب" (1/253) : " وَيُسَنُّ لَهُ أَيْضًا إزَالَةُ
شَعْرِ جَمِيعِ بَدَنِهِ مِنْ رَأْسِهِ وَغَيْرِهِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد : (
أَلْقِ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ ) إلَّا لِحْيَةَ ذَكَرٍ " انتهى .
قال ابن قدامة : " وَيُسْتَحَبُّ إزَالَةُ شَعْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا أَسْلَمَ، فَقَالَ: احْلِقْ...
وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ" انتهى من "المغني" (1/153).
وفي "كشاف القناع" (1/153) : " وَيُسَنُّ إزَالَةُ شَعْرِهِ ، فَيَحْلِقُ رَأْسَهُ
، إنْ كَانَ رَجُلًا ، وَيَأْخُذُ عَانَتَهُ وَإِبْطَيْهِ مُطْلَقًا " انتهى
وذهب بعض العلماء إلى أنه
المقصود بهذا الحديث - على القول بصحته - حلق الشعر الذي يكون شعاراً خاصاً لأهل
الكفر ، ولذا سماه في الرواية بـ ( شعر الكفر).
قال القرافي : " وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ زِيُّ الْكُفْرِ ، وَإِلَّا فَقَدَ كَانَ
النَّاسُ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا بِغَيْرِ حَلْقٍ" انتهى من "
الذخيرة " (1/305) .
وقال المباركفوري : " وَالْمُرَادُ بِشَعْرِ الْكُفْرِ : الشَّعْرُ الَّذِي هُوَ
لِلْكُفَّارِ عَلَامَةٌ لِكُفْرِهَا ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْهَيْئَةِ فِي
الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ .
فَكَفَرَةُ الْهِنْدِ وَمِصْرَ لَهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الرَّأْسِ ، شُعُورٌ
طَوِيلَةٌ لَا يَتَعَرَّضُونَ لَهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْجَزِّ أَوِ الْحَلْقِ أَبَدًا
، وَإِذَا يُرِيدُونَ حَلْقَ الرَّأْسِ يَحْلِقُونَ كُلَّهُ إِلَّا ذلك المقدار " .
انتهى من " تحفة الأحوذي " (3/183) .
وقال في "عون المعبود" (2/ 15) : " لَيْسَ الْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ
كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ حَتَّى يَلْزَمَ لَهُ حَلْقُ الرَّأْسِ
كَمَا يَلْزَمُ الْغُسْلُ ، بَلْ إِضَافَةُ الشَّعْرِ إِلَى الْكُفْرِ يَدُلُّ
عَلَى حَلْقِ الشَّعْرِ الَّذِي هُوَ لِلْكُفَّارِ عَلَامَةٌ لِكُفْرِهَا ...
وَهُوَ عَلَى الظَّاهِرِ عَلَامَةٌ مُمَيِّزَةٌ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ "
انتهى .
وقال الشوكاني : " ولم ينقل إلينا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أحدًا
ممن أسلم من أكابر الصحابة أن يحلق شعره ، ولا من غيرهم من متأخري الإسلام غير هذا
الرجل ، ومع هذا فالحديث المذكور في حلق الرأس ضعيف كما أوضح ذلك علماء هذا الشأن"
.
انتهى من "الفتح الرباني" (9/4507) .
وأما المرتد : فلم نقف على
من نص من أهل العلم : أنه يستحب له حلق شعره إذا أسلم ، ولم نقف أيضا في شيء من
الآثار على أمر للمرتد إذا أسلم : أن يحلق شعره .
فالظاهر أنه يختلف عن الكافر الأصلي ، مع ما ذكرناه من الخلاف في الكافر الأصلي .
ولعله لو قيل : إن المرتد الذي طال زمان ردته ، حتى نبت فيها شعره ، وصار ينسب ذلك
إلى حال الكفر ، أو صار شعره ، شعارا للكفر ، كما ذكر في شأن "شعار الكفار" : لو
قيل إن مثل هذا يؤمر بحلق شعره ، كالكافر الأصلي ، دون من لم يكن حاله كذلك ، ممن
قربت مدة ردته لعله لو قيل ذلك ، أن يكون له وجه ، إن شاء الله .
قال العيني: " وإنما أمر النبي عليه السلام بالحلق زيادة لتنظيفه ، وإزالةَ للشعر
الذي رباه في الكفر" انتهى من " شرح سنن أبي داود " (2/183).
والحاصل :
أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في أمر من أسلم بحلق شعر رأسه ،
والأحاديث الواردة في هذا الباب لا تخلو من ضعف - وإن كان قد حسنها بعض المتأخرين
-.
وقد استحب جمهور العلماء لمن أسلم أن يحلق شعر رأسه ، وذهب بعضهم إلى أن هذا الحكم
خاص بمن كان شعره على صفة أو هيئة من الهيئات التي تختص بالكفار ، ففي هذا الحال -
فقط - يؤمر بحلقه ، وهذا هو الأقرب .
وللفائدة ينظر جواب السؤال : ( 14051 ) .
والله أعلم .
تعليق