الحمد لله.
أولا :
يجب على من يفتي في دين الله أن يكون عالما بما يفتي به ، سواء أفتى بتحليل أو تحريم ، فمن علم شيئا قال به ، ومن لم يعلم أوكل علم ما لا يعلمه إلى عالمه .
قال الله تعالى : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ) النحل/ 116 .
قال السعدي رحمه الله :
" أي: لا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم ، كذبا وافتراء على الله وتقولا عليه " .
انتهى من " تفسير السعدي" (ص 451) .
وروى أبو داود (3657) عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ) وحسنه الألباني في " صحيح أبي داود" .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" ومن أعظم الجرائم : الفتوى بغير علم ، فكم ضل بها من ضل ، وهلك بها من هلك ، ولا سيما إذا كانت الفتوى معلنة على رءوس الأشهاد وممن قد يغتر به بعض الناس؛ فإن الخطر بذلك عظيم والعواقب وخيمة ، وعلى المفتي بغير علم مثل آثام من تبعه " .
انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز" (3/ 219) .
ثانيا :
أما قبول قول القائل : إن هذا حرام وهذا واجب ، ولم يذكر دليلا على ذلك :
فإن كان هذا القائل ليس من أهل العلم المعروفين بذلك : فلا يتبع على هذا القول ، ولا يجب على من سمعه أن يأخذ بقوله ، أو يرجع إليه.
وأما إن كان عالما معروفا بالعلم والأمانة ، فهذا فيه تفصيل :
فإن كان السائل طالب علم ، يفهم في الدليل ، ويحسن النظر ؛ فإنه لا يلزمه اتباعه بمجرد ذلك ، حتى يبين له مأخذ قوله ودليله ؛ لأن طالب العلم قادر على البحث ومعرفة الأقوال ومناقشة الأدلة والترجيح بينهما .
وإن كان السائل عاميا لا يفهم مأخذ الدليل ، ولا يستطيع مناقشة الأدلة ولا الترجيح بينها ، فإنه يلزمه اتباع المفتي في قوله ؛ فإن هذا هو الواجب في حقه ، كما قال الله تعالى : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل /43 .
ولأن عدم الرجوع إلى العالم ، والأخذ بقوله : فيه تفويت للعلم من أصله ، وضياع للشريعة ، وفتح لباب التلاعب بالدين ، والخروج عن جملة الشريعة .
لكنه إن استراب في قول قائل ، فله أن يسأله عن دليل ذلك ، إن كان يمكنه أن يحسن ذلك ، ويفهمه إذا بين له .
والأولى في حقه ، متى استراب : أن يسأل غيره من أهل العلم ، المشهورين بالديانة والأمانة ، على جهة طلب الثقة والاطمئنان ، ودفع الريب وقلق النفس ، لا على جهة التلاعب ، وطلب الترخص ، وتتبع الزلات .
فإن طالب المستفتي المفتي بالدليل فعلى المفتي أن يذكره له .
قال ابن القيم رحمه الله :
" يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَذْكُرَ دَلِيلَ الْحُكْمِ وَمَأْخَذَهُ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يُلْقِيهِ إلَى الْمُسْتَفْتِي سَاذَجًا مُجَرَّدًا عَنْ دَلِيلِهِ وَمَأْخَذِهِ ؛ فَهَذَا لِضِيقِ عَطَنِهِ وَقِلَّةِ بِضَاعَتِهِ مِنْ الْعِلْمِ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فَتَاوَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي قَوْلُهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ ، رَآهَا مُشْتَمِلَةً عَلَى التَّنْبِيهِ عَلَى حِكْمَةِ الْحُكْمِ وَنَظِيرِهِ ، وَوَجْهِ مَشْرُوعِيَّتِهِ" انتهى من " إعلام الموقعين" (4/ 123) .
وبعض المفتين قد لا يذكر دليل الحكم لكونه فيه خفاء ، فلا يفهمه العامي ، فقد يكون الدليل قياسا أو قاعدة فقهية أو أصولية ... ونحو ذلك .
قال النووي رحمه الله :
" وَيَنْبَغِي للعامي أَن لَا يُطَالب الْمُفْتِي بِالدَّلِيلِ وَلَا يقل: لم قلتَ ؟ فَإِن أحبَّ أَن تسكن نَفسه بِسَمَاع الْحجَّة : طلبَهَا فِي مجْلِس آخر ، أَو فِي ذَلِك الْمجْلس بعد قبُول الْفَتْوَى مُجَرّدَة " .
انتهى من " آداب الفتوى والمفتي والمستفتي " (ص 85) .
وقال النووي أيضا :
" لَيْسَ بِمُنْكَرٍ أَنْ يَذْكُرَ الْمُفْتِي فِي فَتْوَاهُ الْحُجَّةَ ، إذَا كَانَتْ نَصًّا وَاضِحًا مُخْتَصَرًا .
قَالَ الصَّيْمَرِيُّ : لَا يَذْكُرُ الْحُجَّةَ إنْ أَفْتَى عَامِّيًّا ، وَيَذْكُرُهَا إنْ أَفْتَى فَقِيهًا ، كَمَنْ يُسْأَلُ عَنْ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ ، فَحَسَنٌ أَنْ يَقُولَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ) ، أَوْ عَنْ رَجْعَةِ الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَيَقُولُ : لَهُ رَجَعْتُهَا، قال الله تعالى ( وبعولتهن أحق بردهن) ".
انتهى من "المجموع" (1/ 52).
فيؤخذ من هذا : أنه إذا أفتى عاميا ، ولم يكن الدليل نصا واضحا مختصرا ؛ أنه لا حرج عليه أن لا يذكره في فتواه .
وانظر للفائدة جواب السؤال رقم : (148057) .
والله تعالى أعلم .
تعليق