الحمد لله.
أولاً :
قد ينقل عن الإمام الواحد كالأئمة الأربعة وغيرهم عدة اجتهادات في المسألة الواحدة ، وهنا يختلف أصحابه وأتباعه في اختيار أحد هذه الأقوال والاجتهادات ، ووصفه بأنه هو مذهب الإمام ، ولهم في ذلك قواعد وضوابط ، فيحاولون الجمع بين الأقوال أولا ، فإن تعذر وعُلم التاريخ ، فبعضهم يجعل القول الأخير هو المذهب ، وبعضهم يجعل الأول ، فإن لم يعلم التاريخ ، فإنه يرجح بين الأقوال ، ومن طرق الترجيح : أن القول الموافق لقواعد المذهب هو المذهب .
قال ابن بدران رحمه الله :
" وَقد يكون لَهُ (يعني : الإمام أحمد) فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة رِوَايَات ، ثمَّ إِنَّك تنظر فِي كتب الْأَصْحَاب فتجد غالبها مَبْنِيا على قَول وَاحِد ، وَرِوَايَة وَاحِدَة أخذك الشوق إِلَى أَن تعلم كَيفَ كَانَ تصرف الْأَصْحَاب فِي ذَلِك ؟ وَمَا هِيَ طَريقَة المرجحين لإحدى الرِّوَايَات على الْأُخْرَى ... .
لَا يخفاك أَن الْأَصْحَاب أخذُوا مَذْهَب أَحْمد من أَقْوَاله ، وأفعاله ، وأجوبته ، وَغير ذَلِك ؛ فَكَانُوا إِذا وجدوا عَن الإِمَام فِي مَسْأَلَة قَوْلَيْنِ : عدلوا أَولا إِلَى الْجمع بَينهمَا بطريقة من طرق الْأُصُول ، إِمَّا بحمل عَام على خَاص ، أَو مُطلق على مُقَيّد ، فَإِذا أمكن ذَلِك : كَانَ الْقَوْلَانِ مذْهبه .
وَإِن تعذر الْجمع بَينهمَا وَعلم التَّارِيخ ، فَاخْتلف الْأَصْحَاب : فَقَالَ قوم : الثَّانِي مَذْهَب ... وَقَالَت طَائِفَة : الأول ، وَلَو رَجَعَ عَنهُ ...
فَإِن جهل التَّارِيخ ، فالمذهب أقرب الْأَقْوَال من الْأَدِلَّة ، أَو قَوَاعِد مذْهبه " انتهى من " المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل " (ص/126) .
وانظر: "المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل" (1/291) للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله .
ولهذا يفرق بين المذهب الاصطلاحي ، والمذهب الشخصي .
فالمذهب الاصطلاحي للإمام : هو ما اختاره أصحابه ، وعولوا عليه ، وجعلوه هو المذهب ، وقد يكون الإمام أفتى بخلافه ، أو لم ينقل عنه قول في هذه المسألة بعينها .
أما المذهب الشخصي : فهو نص الإمام ، واختياره الشخصي .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"وهناك فرق بين المذهب الشخصي الذي يدين به الإمام لله عزّ وجل ، وبين المذهب الاصطلاحي :
فالمذهب الاصطلاحي : قد لا يكون الإمام قاله، أو قال بخلافه، وهو ما اصطلح عليه أتباع هذا الإمام أن يكون هو مذهبهم، مثل أن يختاره أئمة من أتباعه، ويقولون: إذا اتفق فلان وفلان من أئمة أتباعه على كذا فهو المذهب، أو إذا كان أكثر الأتباع على هذا فهو المذهب، لكن المذهب الشخصي يختلف ، فهو ما يدين به لله عزّ وجل، وقد يكون موافقاً لما قيل: إنه المذهب اصطلاحاً، وقد يكون مخالفاً" انتهى .
الشرح الممتع (12/41) .
ثانياً :
مسألة مسح الأذنين في الوضوء ، تعد من تلك المسائل التي تعددت فيها الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله .
فقد جاء في " مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني " (ص/14) :
" قُلْتُ لِأَحْمَدَ : إِذَا تَرَكَ مَسْحَ أُذُنَيْهِ نَاسِيًا يُعِيدُ الْوُضُوءَ ؟ قَالَ لَا ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ ، قُلْتُ : إِذَا تَرَكَهُ مُتَعَمِّدًا ؟ قَالَ : هَذَا أَخْشَى أَنْ يَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يُعِيدَ " انتهى .
وذكر المرداوي رحمه الله روايتين عن الإمام أحمد في وجوب مسح الأذنين ، فقال :
"إحْدَاهُمَا : لَا يَجِبُ مَسْحُهُمَا بَلْ يُسْتَحَبُّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، قَالَ الزَّرْكَشِيّ : وَهِيَ الْأَشْهَرُ نَقْلًا" . ثم ذكر من اختارها من علماء الحنابلة ، ثم قال : "وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يَجِبُ مَسْحُهُمَا ، نَصَّ عَلَيْهِ ، قَالَ الزَّرْكَشِيّ اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ . انْتَهَى" ثم ذكر من اختارها أيضا ثم قال : "وهو المذهب على المصطلح" انتهى من " تصحيح الفروع " (1/181) .
وبناء على هذا ؛ فمذهب الإمام أحمد الاصطلاحي ، وهو ما اختاره أكثر أصحابه : هو وجوب مسح الأذنين في الوضوء .
وهذا لا يمنع أن يكون للإمام أحمد قول آخر في المسألة .
والله أعلم .
تعليق