الحمد لله.
أولا :
المريد للخير إرادة جازمة صحيحة ، ولكن حال بينه وبين فعله عذر من مرض أو عجز أو غير ذلك من الأعذار الشرعية، هو بمنزلة العامل .
روى البخاري (4423) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ : ( إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ ) ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ ، قَالَ : ( وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ ) ".
وروى ابن ماجة (1344) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ، وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ حَتَّى يُصْبِحَ ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) وصححه الألباني في " صحيح ابن ماجة " .
وروى الترمذي (2325) وصححه ، وأحمد (18031) عن أبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيُّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا ، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ) .
وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" من نوى الخير وعمل منه مقدوره ، وعجز عن إكماله : كان له أجر عامل " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (22 /243) .
وقال أيضا :
" فَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَاصِدِينَ لِلْعَمَلِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ ، رَاغِبِينَ فِيهِ ، لَكِنْ عَجَزُوا ، فَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10 /441) .
وقال أيضا :
" الْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً ، مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (10/ 731) .
وهذه المشاركة ، أو المساواة ، المذكورة في النصوص ، بين "الناوي" و"العامل" ، إنما هي في أصل أجر العمل ، ولا يلزم من ذلك أن يكون له أجر العامل من كل وجه .
قال ابن رجب رحمه الله :
" وقد حمل قوله : ( فهما في الأجر سواءٌ ) على استوائهما في أصلِ أجرِ العمل ، دون مضاعفته ، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل دونَ من نواه فلم يعمله " .
انتهى من " جامع العلوم والحكم " (2/321) .
وروى مسلم (1909) من حديث سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ) .
قال في "عون المعبود" (4/268) :
" ( بَلَّغَهُ اللَّه مَنَازِل الشُّهَدَاء ) : مُجَازَاة لَهُ عَلَى صِدْق الطَّلَبِ ( وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ) : لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَوَى خَيْرًا وَفَعَلَ مَقْدُورَهُ ، فَاسْتَوَيَا فِي أَصْل الْأَجْرِ " انتهى.
وقال المناوي رحمه الله:
" (وإن مات على فراشه) لأن كلا منهما نوى خيرا وفعل ما يقدر عليه، فاستويا في أصل الأجر، ولا يلزم من استوائهما فيه من هذه الجهة: استواؤهما في كيفيته وتفاصيله، إذ الأجر على العمل ونيته يزيد على مجرد النية، فمن نوى الحج ولا مال له يحج به يثاب دون ثواب من باشر أعماله، ولا ريب أن الحاصل للمقتول من ثواب الشهادة تزيد كيفيته وصفاته على الحاصل للناوي الميت على فراشه ، وإن بلغ منزلة الشهيد ، فهما وإن استويا في الأجر لكن الأعمال التي قام بها العامل تقتضي أثرا زائدا وقربا خاصا، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء " .
انتهى من " فيض القدير " (6/186) .
ثانيا :
روى البخاري (1896) ، ومسلم (1152) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ ؟ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ ، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ ) .
فباب الريان خاص بالصائمين ؛ لأنهم صبروا على العطش في نهار رمضان ، وخاصة في أيام الصيف والحر .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
" وَأما تَسْمِيَته بَاب الصَّوْم بِبَاب الريان: فَإِنَّهُ لَائِق بِالْحَال؛ لِأَن جَزَاء الصَّائِم والعطشان أَن يرْوى، فَسُمي باسم الْجَزَاء " انتهى من "كشف المشكل" (3/ 391).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" (الريان) يعني الذي يروي ؛ لأن الصائمين يعطشون ولاسيما في أيام الصيف الطويلة الحارة؛ فيجازون بتسمية هذا الباب بما يختص بهم، باب الريان " .
انتهى من "شرح رياض الصالحين" (5/ 271).
فمن مرض مرضا مزمنا ، لم يستطع معه الصوم ، فأطعم ولم يصم ، وعلم الله منه أنه لو كان قدر لصام : كان له أصل أجر الصائم ، دون مضاعفات الأجر ، وما يترتب على الصيام من الفضل .
والظاهر أن الوعد المذكور في الحديث ، بالدخول من باب الريان : إنما هو من الفضائل الزائدة للصيام ، على أصل الأجر ، وأن ذلك إنما هو للصائمين حقيقة ، وليس لمن نوى الصيام وعجز عنه .
بل الراجح أن هذه الفضيلة ليست لكل صائم ، وإنما هي لمن غلب عليه الاشتغال بالصيام ، حتى أكثر من صوم النافلة ، وليس مجرد صيام الفريضة .
قال الزرقاني في شرحه على الموطأ (3/77) : "(وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: الرَّجَاءُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ نَبِيِّهِ وَاقِعٌ ، وَبِهِ صُرِّحَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَلَفْظُهُ: " فَقَالَ: أَجَلْ وَأَنْتَ هُوَ يَا أَبَا بَكْرٍ " وَفِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِقِلَّةِ مَنْ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا يُتَطَوَّعُ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَذْكُورَةِ لَا وَاجِبَاتُهَا لِكَثْرَةِ مَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْعَمَلُ بِالْوَاجِبَاتِ، بِخِلَافِ التَّطَوُّعَاتِ فَقَلَّ مَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْعَمَلُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا" . انتهى .
وقال ابن عبد البر : " وَفِيهِ: أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ لَا يُفْتَحُ فِي الْأَغْلَبِ لِلْإِنْسَانِ الواحد في جميعها وَأَنَّ مَنْ فُتِحَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حرم غيرها ، في الأغلب وأنه قد تفتح في جميعها لِلْقَلِيلِ مِنَ النَّاسِ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ " انتهى من "التمهيد" (7/185) .
ولا يضر المعذور أنه لا يدخل من هذا الباب إذا اتقى الله وأحسن العمل ؛ فإن للجنة أبواباً كثيرة؛ كما قال تعالى : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ) الرعد/23 .
وقد روى البخاري (1897) ، ومسلم (2027) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ ) .
فمن فاته فضل عمل صالح لعذر ، فإن له من صالح الأعمال متسعا ، فمن فاته باب الريان ، فليجتهد أن يكون من أصحاب الأبواب الأخرى ، كباب الصلاة ، وباب الجهاد ، وباب الحج ، وباب الصدقة ، وغير ذلك من أبواب الجنة.
انظر جواب السؤال رقم : (148176) .
والله تعالى أعلم .
تعليق