الحمد لله.
أسوأ ما يمكن أن يبلغه القارئ أو الباحث أن يمنح نفسه حق الحكم على النبي عليه الصلاة والسلام، أو على أحد من أصحابه، عبر مشهد يقرؤه في إحدى الروايات، دون أن يستحضر المشاهد قبله أو بعده، ودون أن يتفهم لحاقه وسباقه، حتى لو لم يكن مرويا ذلك السياق، فالواجب على الناقد أن يحاول تصوره، واستدعاءه، وجمع أجزاء المشهد المفترض حدوثها، وحينئذ يمكنه أن يشكل قراءة منصفة موضوعية.
فحين تقرأ حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ.
فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ: مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ. أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ. فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ: مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ. أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ. فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبَيْهِ: مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا) رواه مسلم في "صحيحه" (رقم/1789) .
فأول ما ينبغي أن تستحضر أن النبي عليه الصلاة والسلام ليس في موقف المتهم بين أصحابه، ولا بين المسلمين جميعا، فهو عليه الصلاة والسلام رسول النور والهداية والرحمة للبشرية جميعها، وهداية البشرية كلها ، واستقامتها : مرهون بدعوته، ومصير حركة الأديان في العالم كله مرتبط بدينه، ولذلك ختم الله به الرسالات، ورفع مقامه وذكره في العالمين جميعا، وعصمه من الناس، وحماه بما قدّر عز وجل من الأسباب.
ولهذا كان أصحابه رضوان الله عليهم ، يود أحدهم لو فداه بنفسه وماله، لا يجد في ذلك ترددا ولا غضاضة؛ لأنه بحماية نبي الله، يحمي مشعل نور التوحيد والعدل والاستقامة والخير في أرجاء المعمورة.
وبمثل هذا الفداء والتضحية استمرت رسالة الإسلام، وتشكلت أمة المسلمين، وبلغت أعلى ذرى المجد في تحقيق الممكن من حياة العدل والعلم والسلام، كل ذلك بفضل هذه التضحيات الجليلة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
فليس بوارد على قلب مسلم، فضلا عن قلب صحابي جليل، يدافع مع النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة المنورة، أن يرى نبيه عليه الصلاة والسلام في غير مقام الكمال، أو يرى أن نفسه أولى بالحفظ والإيثار، من روحه الشريفة عليه الصلاة والسلام.
وفوق ذلك كله كان صلى الله عليه وسلم خير قدوة وخير مثال، فقد حمل السلاح وشارك أصحابَه في الدفاع عن حرمات المسلمين، ورد كيد الحاقدين الظالمين، وصيانة الأرواح والأعراض والأموال من تجبر جاهلية قريش واستكبارها في الأرض، وكان أصحابه من شجاعته يلوذون به إذا حمي الوطيس.
روى أحمد (1346) عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ : (كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم ، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى إِلَى الْقَوْمِ مِنْهُ) وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند : إسناده صحيح .
ومعنى : " احْمَرَّ الْبَأْسُ" أي اشتدت الحرب .
وروى البخاري (2627) ومسلم (2307) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ : لَمْ تُرَاعُوا ، لَمْ تُرَاعُوا) .
قال النووي رحمه الله :
"فِيهِ فَوَائِد : مِنْهَا بَيَان شَجَاعَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِدَّة عَجَلَته فِي الْخُرُوج إِلَى الْعَدُوّ قَبْل النَّاس كُلّهمْ , وَبِحَيْثُ كَشَفَ الْحَال , وَرَجَعَ قَبْل وُصُول النَّاس" انتهى .
ومعنى : "فرس عري" أي ليس عليه سرج ، وهذا من كمال شجاعته صلى الله عليه وسلم ، فاستعجل النظر في الأمر المهم المقلق ، ولم ينتظر حتى تسرج له دابته.
وفي غزوة حنين حين فر أكثر الصحابة من المعركة ، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدفع بغلته تجاه العدو وهو يقول : (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ) . قال البراء بن عازب رضي الله عنه : (فَمَا رُئِيَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ) . رواه البخاري (3042) ومسلم (1776) .
ولكن مصاب المسلمين في أحد كان عظيما، فقد جرحت وجنته الشريفة، وسال دمه الطاهر، وكُسرت رَباعيّته في فمه المكرّم، فدافع وقاتل بنفسه عن أصحابه في أحلك الظروف وأشدها، وكان يتقدمهم بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام يحمي أرواحهم، ويحول دونهم ودون المعتدين من قريش، ولم يقعد آمنا في بيته أو خيمته في ذلك الموقف العصيب.
وما يستشكله هذا السائل إنما هو آخر مشهد من تلك الساعات المؤلمة العصيبة جدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الكرام، فقد رهقته المقاتلة، وأضناه حمل السلاح، وجرحُه ينزف لا يجد له علاجا، ولا ما يرقؤه به، سقط في حفرة، ودخلت حلقات المغفر في وجهه غائرة لم يتمكن من انتزاعها، وهُشِّم الترس الحديدي على رأسه الشريف، وألقيت عليه الحجارة الكبيرة، حتى انتشرت إشاعة قتله عليه الصلاة والسلام من شدة ما لقي، وهو بأبي وأمي قد قارب سن الستين!!
يقول ابن هشام رحمه الله:
"قال ابن إسحاق: وانكشف المسلمون، فأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَدُثَّ بالحجارة حتى وقع لشقه، فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.
قال ابن إسحاق: فحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم! فأنزل الله عز وجل في ذلك: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ).
قال ابن هشام: وذكر ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله ابن شهاب الزهري شجه في جبهته، وأن ابن قَمِئَة جرح وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون، وهم لا يعلمون، فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما" انتهى من " سيرة ابن هشام" (2/ 79)
فلما بلغ برسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبلغ الشديد، واجتمع عليه جماعة من المشركين يبغون قتله، وهو فيما أصابه، اجتمع إليه جماعة من أصحابه الكرام يفدونه بأرواحهم وأجسادهم، كما قال ابن حزم: "لحق المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكرَّ دونه نفر من المسلمين رضوان الله عليهم، كانوا سبعة، وقيل أكثر، حتى قُتلوا كلهم، وكان آخرهم عمارة بن يزيد بن السكن" انتهى من " جوامع السيرة" (ص: 127).
فأي ضير – والحال هذه – أن يطلب عليه الصلاة والسلام من أصحابه عونه ومساندته!
وأي جناية في تعاون المجاهدين في صد العدوان، والدفاع عن بعضهم بعضا، كما هو شأن جميع المقاتلين: يعين بعضهم بعضا، ويحمي بعضهم بعضا!
وهو في ذلك عليه الصلاة والسلام معتصم بحبل الله، واثق بعصمته، وآخذ بأسباب ذلك، فطلب من أصحابه عونه في ذلك، كي لا تموت دعوة الحق في مهدها، ولا ينتصر أهل الظلم والعدوان، بعد أن قطعوا الفيافي والقفار من مكة إلى المدينة، يبغون العدوان والتنكيل بالمؤمنين في مدينتهم المسالمة والآمنة، ليفتنوهم عن دينهم، ويلزموهم بآصار الشرك والجاهلية التي لا تلوي على خير ولا خلق ولا حق ولا دين.
هذا جزء يسير من المشهد المؤلم ، وهو كفيل في شرح السبب الذي حدا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرِّف أصحابه ويكرِّمهم في ندبه لهم: (من يردهم عنا وله الجنة)، فقد كان من آثار ما أصابه عليه الصلاة والسلام – كما في "السيرة الحلبية" (2/322، 324)- أنه لم يتمكن من صعود صخرة يحتمي بها حتى أعانه طلحة رضي الله عنه، وصلى يومها بالمسلمين قاعدا .
وما لم يروه الرواة، ولم ينقله الناقلون، أفدح وأخطر فيما نحسب أو نظن؛ لما كانت عليه الحروب يومها من إصابات بدنية مؤلمة، لا يجدون لها تطبيبا. ولو تصور السائل تلك الآلام التي تحدثها السيوف والجروح، وافترض القاعدة العسكرية المعلومة، أن المقاتلين وقادتهم أدرى بظروف معركتهم من غيرهم، لم يتجرأ على توجيه العتب أو اللوم لطريقة توزيع مسؤولية الدفاع وهو يقرأ رواية واحدة مقطوعة عن سياقها، بل لو قرأ التاريخ كله لن يتمكن من تصور حقيقة ما جرى كما هو إدراك أصحاب الحكاية أنفسهم، وحينئذ سيدرك أن شكه وسؤاله لم يقع في محله الصحيح.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنصَفْنا أصحابَنا) ليس المقصود أنه عليه الصلاة ضحى بأصحابه من أجل نفسه. وإنما المراد معاتبة القرشيين اللذين لم يُقْدِما على الدفاع أيضا، فقد كان ينبغي أن يشارك الجميع في الدفاع والحماية، ولا يقتصر ذلك الواجب المهم على الأنصار الذين أقدموا تباعا، حتى استشهدوا السبعة.
وقال بعض العلماء: إن الضبط الأدق هو (ما أنصفَنا أصحابُنا)، يريد الصحابة الذين فروا وتركوه عليه الصلاة والسلام يواجه هذه الجراح ومحاولات القتل وحده.
قال القاضي عياض :
" وفي غزوة أحد ما أنصفنا أصحابنا، بالنصب مفعولين، كذا ضبطناه وبه يستقل معنى الكلام في الذين قاتلوا عنه من الأنصار فقتلوا دون غيرهم . "وبعض رواة كتاب مسلم ضبطه بالرفع على الفاعل، ووجهه : أن يرجع إلى الجملة فيمن فر عنه وتركه في النفر القليل . والله أعلم" انتهى من " مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (2/ 16).
وقال الإمام النووي رحمه الله:
"معناه: ما أنصفت قريشٌ الأنصارَ؛ لكون القرشيين لم يخرجا للقتال، بل خرجت الأنصار واحدا بعد واحد" انتهى من " شرح مسلم" (12/ 147)
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله:
"وجه النصب: أن الأنصار لما خرجوا للقتال واحدا بعد واحد حتى قتلوا، ولم يخرج القرشيان، قال ذلك، أي: ما أنصفت قريش الأنصار.
ووجه الرفع: أن يكون المراد بالأصحاب الذين فروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أُفرد في النفر القليل، فقتلوا واحدا بعد واحد، فلم ينصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثبت معه" انتهى من "زاد المعاد" (3/183).
والحاصل:
أنه لا اختلاف بين الناس جميعا : أن القائد في المعركة له خصوصية ليست لغيره ، ويحاط بالحماية والوقاية والدفاع عنه ، ما لا يتوفر شيء منه البتة لغيره من الجنود ، وأن الوصول إلى القائد وأسره ، أو قتله : هو واحد من أكبر الضربات للجيش ، وأسباب هزيمته النفسية والعسكرية ؛ فكيف يقاس هذا بغيره ؟
فكيف إذا كان القائد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأبي هو وأمي ؟
والله أعلم.
تعليق