الحمد لله.
النسخ : أن يرفع الشارع حكما سابقا متقدما ، بحكم آخر ـ من الشارع أيضا ـ لكنه متأخر عن الحكم الأول ، لاحق له .
والنسخ يعرف بأمور:
الأول : أن ينص الشارع على النسخ .
الثاني: أن ينص الصحابي على ذلك .
الثالث : أن تجمع الأمة على أن الحديث منسوخ.
الرابع : أن يتعارض حديثان، ولا يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه، ويعرف المتقدم منهما من المتأخر، فيكون المتقدم منسوخا.
قال النووي رحمه الله: " أما النسخ فهو رفع الشارع حكما منه متقدما ، بحكم منه متأخر .
هذا هو المختار فى حده ...
ثم النسخ يعرف بأمور منها:
تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم به ، كـ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) رواه مسلم 977].
ومنها قول الصحابى: ( كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار ) .
ومنها ما يعرف بالتاريخ .
ومنها ما يعرف بالإجماع ، كقتل شارب الخمر في المرة الرابعة ؛ فإنه منسوخ ، عرف نسخه بالإجماع.
والإجماع لا يَنسخ ، ولا يُنسخ ، لكن يدل على وجود ناسخ ، والله أعلم.
وأما اذا تعارض حديثان في الظاهر ، فلا بد من الجمع بينهما ، أو ترجيح أحدهما .
وإنما يقوم بذلك غالبا الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه ، والأصوليون المتمكنون في ذلك ، الغائصون على المعاني الدقيقة ، الرائضون أنفسهم في ذلك، فمن كان بهذه الصفة ، لم يُشكِل عليه شيء من ذلك ، إلا النادر ، في بعض الأحيان .
ثم المختلف قسمان: أحدهما: يمكن الجمع بينهما، فيتعيّن، ويجب العمل بالحديثين جميعا.
ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة : تعيّن المصير إليه .
ولا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع ؛ لأن في النسخ إخراج أحد الحديثين عن كونه مما يعمل به .
ومثال الجمع حديث ( لا عدوى ) مع حديث ( لا يورِد مُمْرِض على مُصِحّ ) .
وجه الجمع : أن الأمراض لا تُعدِي بطبعها ، ولكن جعل الله سبحانه وتعالى مخالطتها سببا للإعداء، فنفى في الحديث الأول ما يعتقده أهل الجاهلية من العدوى بطبعها، وأرشد في الثاني إلى مجانبة ما يحصل عنده الضرر عادة ، بقضاء الله وقدره وفعله.
القسم الثاني: أن يتضادا ، بحيث لا يمكن الجمع بوجه :
فإن علمنا أحدهما ناسخا : قدمناه .
وإلا ؛ عملنا بالراجح منهما، كالترجيح بكثرة الرواة ، وصفاتهم ، وسائر وجوه الترجيح، وهى نحو خمسين وجها ، جمعها الحافظ أبو بكر الحازمي في أول كتابه : "الناسخ والمنسوخ" . وقد جمعتها أنا مختصرة ، ولا ضرورة إلى ذكرها هنا كراهة للتطويل" انتهى من " شرح مسلم " (1/ 60-61).
وقال الحازمي رحمه الله فيما يعرف به الناسخ والمنسوخ:
"ويعرف ذلك بأمارات عدة :
منها : أن يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم مصرحا به ؛ نحو قوله عليه السلام : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ؛ ألا فزوروها ) .
أو يكون لفظ الصحابي ناطقا به ، نحو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ، ثم جلس بعد ذلك ، وأمرنا بالجلوس ) .
ومنها : أن يكون التاريخ معلوما ؛ نحو ما رواه أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله إذا جامع أحدنا ، فأكسل [أي لم ينزل] ؟ فقال النبي : ( يغسل ما مس المرأة منه ، وليتوضأ ثم ليصل ) .
هذا حديث يدل على أن لا غسل مع الإكسال ، وأن موجب الغسل الإنزال .
ثم لما استقرأنا طرق هذا الحديث ، أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في مبدأ الإسلام ، واستمر ذلك إلى بعد الهجرة بزمان .
ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك ، فأجابه عروة أن عائشة رضي الله عنها حدثته ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ولا يغتسل . وذلك قبل فتح مكة ، ثم اغتسل بعد ذلك ، وأمر الناس بالغسل .
ومنها : أن تجتمع الأمة في حكمه على أنه منسوخ ، فهذه معظم أمارات النسخ...
وإن لم يمكن التمييز بينهما ، بأن أُبهم التاريخ ، وليس في اللفظ ما يدل عليه ، وتعذر الجمع بينهما ، فحينئذ يتعين المصير إلى الترجيح .
ووجوه الترجيحات كثيرة ، أنا أذكر معظمها ..." انتهى من " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار " (ص8 )، لأبي بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الهمداني، (المتوفى : 584هـ)، وكتابه من أنفع الكتب في هذا الباب.
وبهذا يتبين لك أن الأمر ليس مشكلا، فأكثر الأحاديث الثابتة ليست منسوخة ، ولا يتطرق النسخ إلا للأحاديث المتعارضة التي لا يمكن الجمع بينها، فهذه قد ينص الشارع فيها على النسخ، وقد ينص الصحابي أو ينعقد الإجماع على كون الحديث فيها منسوخا. وقد يُعلم النسخ من جهة التقدم والتأخر.
ولم يترك فقهاء الحديث ، وشرّاح السنة ، شيئا من ذلك إلا بينوه ، ولله الحمد والمنة ؛ فلا وجه لتطريق الاحتمالات ، وإدخال الوساوس والشكوك ، من غير طائل ، ولا موجب من العلم .
وانظر للفائدة: السؤال رقم : (228722) ، ورقم: (147416) .
والله أعلم.
تعليق