الأحد 23 جمادى الأولى 1446 - 24 نوفمبر 2024
العربية

ما المقصود بتثليث النصارى الذي أبطله القرآن ؟

243142

تاريخ النشر : 11-02-2017

المشاهدات : 95380

السؤال

جاء في أكثر من موضع في القرآن الكريم ذم النصارى لقولهم أن الله ثالث ثلاثة مثل الآية 171 من سورة النساء والآية 73 من سورة المائدة وعندما أقرأ هذه الآيات افترض أنها تتحدث عن عقيدة التثليث عند النصارى (الأب، الابن، والروح القدس) ولكن تفسير ابن كثير يذكر أن المقصود بهذه الآيات هو قول النصارى أنّ الله ثلاث ثلاثة هم عيسى عليه السلام ومريم عليها السلام...فهل هذا صحيح؟ وإن كان ذلك صحيحًا، فهل كانت الآيات تشير إلى طائفة معينة من النصارى كون الأمر نفسه عندما يتحدث عن اليهود الذين ذكروا أن عزير هو ابن الله؟ وهل جاء في القران أو السنة ذم عقيدة التثليث التي يؤمن بها معظم النصارى (الأب والابن والروح القدس)؟ أعلم أن النصوص الشرعية تطرقت لاعتقاد النصارى بألوهية عيسى عليه السلام ولكن هل هناك شيء بخصوص ما يعتقدون في حق الروح القدس؟

الجواب

الحمد لله.

أولا :

قال الله تعالى :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) المائدة /73.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى :

" والصحيح : أنها أنزلت في النصارى خاصة ، قاله مجاهد وغير واحد .

ثم اختلفوا في ذلك فقيل : المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة ، وهو أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ...

وقال السُّدِّي وغيره : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله ، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار ، قال السدي : وهي كقوله تعالى في آخر السورة: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ) .

وهذا القول هو الأظهر ، والله أعلم " انتهى . " تفسير ابن كثير " (3 / 158) .

وهذا التفسير الذي اختاره ابن كثير رحمه الله تعالى هو الأظهر للآتي :

1- استأنس فيه ببعض الروايات عن السلف الصالح والتي نهجوا فيها تفسير القرآن بالقرآن وهو من أولى وأحسن طرق تفسير القرآن الكريم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :

" فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ فالجواب : أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن ؛ فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر " انتهى . " مجموع الفتاوى " (13 / 363) .

وهؤلاء السلف رأوا أن جملة ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ) يفسرها قول الله تعالى :

( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) المائدة (116 - 1–7) .

2- يشهد لهذا التفسير ما جاء بعد الآية من بيان عدم ألوهية مريم عليها السلام ؛ حيث قال الله تعالى :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ثم جاء بعدها ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) المائدة (75) .

فبيّنت الآية عدم ألوهية مريم عليها السلام من وجهين :

الأول أن مرتبتها هي الصديقية ، وهي مرتبة من مراتب العبودية لله تعالى .

والوجه الثاني : أنها كانت تأكل الطعام ، وهذه صفة المخلوق المحتاج ، لا صفة الإله الغني المستغني عن مخلوقاته .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :

" وأما حكايته عنهم أنهم قالوا : ( إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ) فالمفسرون يقولون : الله والمسيح وأمه ، كما قال تعالى : ( يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ولهذا قال في سياق الكلام : ( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) أي غاية المسيح : الرسالة ، وغاية أمه : الصديقية ، لا يبلغان إلى اللاهوتية ؛ فهذا حجة هذا . وهو ظاهر " انتهى من " مجموع الفتاوى " (2 / 444) .

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى :

" وقوله: ( كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ) أي : يحتاجان إلى التغذية به ، وإلى خروجه منهما ، فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة " انتهى من " تفسير ابن كثير " (3 / 159) .

3- الوحي جاء لكشف الضلال والكفر ، وبيان سبيل الهداية ، ولم يأت لضبط مصطلحات الكفار ، وتثليث الأقانيم الذي يقول به كفرة النصارى ، على اختلافهم في تفسيره ، فإنما حقيقته وأساسه : غلوهم في عيسى عليه السلام وأمه ، فهدم هذا الأساس ، هو هدم لفكرة الأقانيم من أساسها ، وهدم لكفرهم المشترك على اختلاف طوائفهم ؛ فلهذا كان القول بأن الآية نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله تعالى ، لا يناقض واقع النصارى ، بل هو بيان لحقيقة كفرهم الذي تشترك فيه جميع طوائفهم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معرض كلامه عن الآيات التي ترد على كفر النصارى :

" فقوله تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة [المائدة: 75] عقب قوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [المائدة: 73] : يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم : اتخاذ المسيح ابن مريم وأمه إلهين .

وهذا واضح على قول من حكى من النصارى أنهم يقولون بالحلول في مريم ، والاتحاد بالمسيح، وهو أقرب إلى تحقيق مذهبهم.

وعلى هذا فتكون كل آية مما ذكره الله من الأقوال تعم جميع طوائفهم ، وتعم أيضا قولهم بتثليث الأقانيم ، وبالاتحاد والحلول ، فتعم أصنافهم وأصناف كفرهم ، ليس يختص كل آية بصنف ، كما قال من يزعم ذلك ، ولا تختص آية بتثليث الأقانيم ، وآية بالحلول والاتحاد ، بل هو سبحانه ذكر في كل آية كفرهم المشترك ، ولكن وصف كفرهم بثلاث صفات وكل صفة تستلزم الأخرى : أنهم يقولون المسيح هو الله ، ويقولون هو ابن الله ، ويقولون إن الله ثالث ثلاثة ، حيث اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله ، هذا بالاتحاد ، وهذا بالحلول ، وتبين بذلك إثبات ثلاثة آلهة منفصلة غير الأقانيم . وهذا يتضمن جميع كفر النصارى " انتهى من " الفتاوى الكبرى " (6 / 589 – 590) .

ثانيا :

قول الله تعالى :

( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ) النساء (171) .

فقوله تعالى : ( وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ) لفظة " ثَلَاثَةٌ " هي خبر لمبتدأ محذوف يصلح أن يقدر بأي لفظ يدل على تثليث النصارى ، ولهذا تنوعت أقوال أهل العلم في تقدير هذا المبتدأ .

قال القرطبي رحمه الله تعالى :

" أي : ( وَلَا تَقُولُوا ) آلهتنا " ثَلَاثَةٌ " عن الزجاج .

قال ابن عباس : يريد بالتثليث : الله تعالى وصاحبته وابنه .

وقال الفراء وأبو عبيد : أي لا تقولوا هم ثلاثة ...

قال أبو علي : التقدير : ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة ؛ فحذف المبتدأ والمضاف . والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث " انتهى . " تفسير القرطبي " (7/233) .

فلهذا يصلح أن تعمّ هذه الآية كل تثليث للنصارى .

قال الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى :

" والمخاطب بقوله : ( وَلَا تَقُولُوا ) خصوص النصارى .

و " ثَلَاثَةٌ " خبر مبتدأ محذوف ، كان حذفه ليصلح لكل ما يصلح تقديره من مذاهبهم من التثليث ، فإن النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي ، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث ، مما يصحّ الإخبار عنه بلفظ " ثَلَاثَةٌ " من الأسماء الدالة على الإله، وهي عدة أسماء ...

والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلهم ، ولكنهم مختلفون في كيفيته " انتهى من " التحرير والتنوير " (6 / 54) .

وإذا فسرت على ما نسبه القرطبي لابن عباس رضي الله عنه ، بأن المقصود بها تثليث الله تعالى وصاحبته وابنه ؛ فهذا التفسير له ما يؤيده من آيات القران التي سبق ذكرها في النقطة الأولى .

وعلى هذا القول تكون الآية تنهى عن غلو النصارى في عيسى عليه السلام وأمه ، وهذا أصل تثليثهم المشتهر بينهم ، ففي إبطال غلوهم ابطال لتثليثهم هذا .

ثالثا :

كفرة النصارى وإن كان المشهور عنهم عدم عدّ مريم عليها السلام ضمن الأقانيم الثلاثة التي يؤمنون بها ؛ إلا أن هذا لا ينفي حقيقة تأليههم لها .

واتخاذهم لمريم إلها ، إما على وجه التصريح منهم بألوهيتها ، وهذا نسب إلى بعض فرق النصارى القديمة ، وإما لسلوك النصارى المنتشر بينهم إلى يومنا هذا ، من صرفهم لبعض العبادات إلى مريم ، كدعائها والاستغاثة بها ، والسجود لصورتها ، ومن عبد شيئا فقد اتخذه إلها، وإن لم يصرّح بذلك .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :

" وذكر مريم مع المسيح ؛ لأن من النصارى من اتخذها إلها آخر ، فعبدها كما عبد المسيح .

والذين لا يقولون بهذا : كثير منهم يطلب منها كل ما يطلب من الله ، حتى يقول لها: اغفري لي وارحميني ، وغير ذلك ، بناء على أنها تشفع في ذلك إلى ابنها .

فتارة يقولون : يا والدة الإله ، اشفعي لنا إلى الإله ، وتارة يسألونها الحوائج التي تطلب من الله ولا يذكرون شفاعة ، وآخرون يعبدونها كما يعبدون المسيح .

وقد ذكر سعيد بن البطريق هذا عنهم ، لما ذكر اجتماعهم عند " قسطنطين " بـ " نيقية " .

قال : وكانوا مختلفي الآراء ، مختلفي الأديان .

فمنهم من يقول : المسيح وأمه إلهان من دون الله ، وهم المريمانيون ، ويسمون المريمانية " انتهى من " الجواب الصحيح " (4 / 255 – 256) .

 وقد سبق بسط وشرح هذه المسألة في فتوى سابقة في الموقع برقم (220391) فراجعها للأهمية .

 رابعا :

لفظة " روح القدس " جاءت في نصوص الوحي والمراد بها جبريل عليه السلام .

كما في قوله تعالى :

( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) النحل (102).

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :

" وروح القدس : جبريل ، ومعناه الروح المقدس ، أي : الطاهر من كل ما لا يليق .

وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله: ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) " انتهى من " اضواء البيان " (3 / 442) .

قال الطبري رحمه الله تعالى :

" وإنما سمى الله تعالى جبريل " روحا " وأضافه إلى " القدس " ؛ لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده ، فسماه من أجل ذلك " روحا " ، وأضافه إلى " القدس " ، والقدس : هو الطهر ، كما سمي عيسى ابن مريم " روح لله " ، من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده . وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا أن معنى التقديس: التطهير، والقدس: الطهر من ذلك " انتهى من " تفسير الطبري " (2 / 224) .

وقد جاء في كتب النصارى في قصة حمل مريم بعيسى عليه السلام ، أنه كان من طريق روح القدس ، وهذا يوافق ما جاء به ديننا بأن الله أرسل إليها ملكا وهو جبريل فنفخ فيها فحملت بعيسى عليه السلام .

قال الله تعالى :

( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) مريم (16 – 19) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :

" فهم يذكرون في الأمانة أن المسيح تجسد من مريم ، ومن روح القدس ، وهذا يوافق ما أخبر الله به ، من أنه أرسل روحه الذي هو جبريل ، وهو روح القدس ، فنفخ في مريم ، فحملت بالمسيح ، فكان المسيح متجسدا مخلوقا من أمه ، ومن ذلك الروح ، وهذا الروح ليس صفة لله ، لا حياته ولا غيرها ، بل روح القدس قد جاء ذكرها كثيرا في كلام الأنبياء ، ويراد بها إما الملك ، وإما ما يجعله الله في قلوب أنبيائه وأوليائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك " انتهى من " الجواب الصحيح " (2 / 186) .

لكن النصارى في مسيرة تحريفهم لدينهم رأوا أنه لا يمكنهم تثبيت بنوة عيسى لله ، تعالى عن ذلك، إلا بتفسير روح القدس الذي أرسله الله إلى مريم عليها السلام ، بأنه ما هو إلا صفة الله القائمة به وهي الحياة الخالقة .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى :

" فكان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول بنيقية ، فاجتمع الوزراء والقواد إلى الملك ، وقالوا : إن مقالة الناس قد فسدت ، وغلبت عليهم مقالة آريوس ومقدونيوس ، فاكتب إلى جميع الأساقفة والبتاركة أن يجتمعوا ويوضحوا دين النصرانية . فكتب الملك إلى سائر بلاده ، فاجتمع في قسطنطينية مائة وخمسون أسقفا ، فنظروا وبحثوا في مقالة أريوس ، فوجدوها : أن روح القدس مخلوق ، ومصنوع وليس بإله .

فقال بترك الإسكندرية : ليس روح القدس عندنا غير روح الله ، وليس روح الله غير حياته ، وإذا قلنا: روح الله مخلوق ، فقد قلنا إن حياته مخلوقة ، وإذا قلنا : حياته مخلوقة ، فقد جعلناه غير حي ، وذلك كفر به .

فلعنوا جميعهم من يقول بهذه المقالة ... وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق ، إله حق من أله حق من طبيعة الأب والابن ، جوهر واحد وطبيعة واحدة ... " انتهى من " هداية الحيارى " (ص 410) .

وستروا تحريفهم وضلالهم هذا بتحريف بعض الألفاظ التي يروونها في كتبهم عن عيسى عليه السلام .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :

" وهكذا عند أهل الكتاب أنه تجسد من مريم ومن روح القدس ، لكن ضلالهم حيث يظنون أن روح القدس حياة الله ، وأنه إله يخلق ويرزق ويعبد . وليس في شيء من الكتب الإلهية ولا في كلام الأنبياء أن الله سمى صفته القائمة به روح القدس ، ولا سمى كلامه ولا شيئا من صفاته ابنا، وهذا أحد ما يثبت به ضلال النصارى ، وأنهم حرفوا كلام الأنبياء وتأولوه على غير ما أرادت الأنبياء .

فإن أصل تثليثهم مبني على ما في أحد الأناجيل من أن المسيح عليه السلام قال لهم : " عمدوا الناس باسم الآب والابن وروح القدس " .

فيقال لهم : هذا إذا كان قد قاله المسيح ، فليس في لغة المسيح ولا لغة أحد من الأنبياء ، أنهم يسمون صفة الله القائمة به ، ولا كلمته ، ولا حياته : لا ابنا ، ولا روح قدس ، ولا يسمون كلمته ابنا ، ولا يسمونه نفسه ابنا ولا روح قدس ...

وإذا كان كذلك ، كان في هذا ما يبين أنه ليس المراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية ، التي يقولون إنها تولدت من الله عندهم ، مع كونها أزلية ، ولا بروح القدس حياة الله ، بل المراد بالابن ناسوت المسيح ، وبروح القدس ما أنزل عليه من الوحي ، والملك الذي نزل به ، فيكون قد أمرهم بالإيمان بالله وبرسوله ، وبما أنزله على رسوله ، والملك الذي نزل به ، وبهذا أمرت الأنبياء كلهم " انتهى من " الجواب الصحيح " (2 / 152 – 153) .

فيظهر مما سبق بسطه أن قول النصارى بالأقنوم الثالث : روح القدس ، ليست مسألة مستقلة بذاتها ، وإنما هي مسألة تابعة لقولهم ببنوة عيسى لله تعالى عن ذلك ، فسقوط عقيدة البنوة ، يبطل أصل مقالتهم بالأقنوم الثالث .

ولهذا كانت نصوص الوحي التي تنص على أن الله واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ، وكل النصوص التي تبطل القول بالتثليث ، وبألوهية عيسى عليه السلام ؛ كل هذه النصوص هي كافية للرد على القول بأقنوم روح القدس الذي يقول به كفرة النصارى ؛ ولعله لهذا لم يخص الوحي هذا الأقنوم برد مستقل .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب