الحمد لله.
أولاً:
اتفق عامة أهل العلم على أن الطواف والسعي ماشياً أولى وأفضل منه راكباً .
قال ابن قدامة : " وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الطَّوَافَ رَاجِلًا- أي ماشيا- أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافُوا مَشْيًا ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ طَافَ مَشْيًا". انتهى من "المغني" (5/250) .
ثانياً:
واتفقوا على أن المعذور يجوز له الطواف والسعي راكباً ، سواء كان العذر مرضا أو عجزا أو مشقة أو كِبَراً في السن ، ونحو ذلك .
لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت : " شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: (طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) متفق عليه.
قال الحافظ : " وفيه جواز الطواف للراكب إذا كان لعذر ، وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها ، ولا تقطع صفوفهم أيضا ، ولا يتأذون بدابتها" انتهى من "فتح الباري" (3/481).
وقال ابن تيمية : " يَجُوزُ الطَّوَافُ رَاكِبًا وَمَحْمُولًا لِلْعُذْرِ بِالنَّصِّ ، وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ".
انتهى من "مجموع الفتاوى" (26/188).
وقال: " وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الطَّوَافُ مَاشِيًا فَطَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا : أَجْزَأَهُ بِالِاتِّفَاقِ"
. انتهى من "مجموع الفتاوى" (26/125).
ثالثاً:
أما الطواف والسعي راكبا لغير المعذور ، فمحل خلاف بين أهل العلم :
فذهب الشافعية والظاهرية إلى أن طواف الراكب وسعيه صحيح مطلقاً ؛ لأن المطلوب هو الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ، وكيفما فعله ماشيا أو راكبا فقد حقق الواجب .
ولما رواه البخاري (1530) ، ومسلم (1272) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير".
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لمصلحة وهي أن يراه الناس ويسألوه.
ففي صحيح مسلم (1273) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: " طَافَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ؛ لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ ، وَلِيُشْرِفَ ، وَلِيَسْأَلُوهُ ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ ".
أي ازدحموا عليه.
قال النووي : " هذا بيان لعلة ركوبه صلى الله عليه وسلم ".
انتهى من "شرح صحيح مسلم" (9/19).
وأما ما جاء في "سنن أبي داود" (1881) من طريق يزيد بن أبي زياد، عن عكرمة عن ابن عباس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته " : فهي رواية ضعيفة لا يعتمد عليها في تعليل ركوبه بالمرض .
وممن ضعفها : البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (7/258)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (5/142) ، والشوكاني في "نيل الأوطار" (5/122) ، والمباركفوري في "تحفة الأحوذي" (3/298) ، والألباني في "ضعيف سنن أبي داود" .
قال الإمام الشافعي : " فَأَخْبَرَ جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ لِيَرَاهُ النَّاسُ ، وَفِي هَذَا دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ مِنْ شَكْوَى وَلاَ أَعْلَمُهُ اشْتَكَى صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ تِلْكَ " انتهى من "الأم" (3/443).
وقال ابن عباس : " إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنَ الْبُيُوتِ ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ ، وَالْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ" رواه مسلم (1264).
واختار هذا القول: الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، فإنه سئل عمن ركب في حال الطواف أو السعي من غير حاجة ماذا عليه ؟
فقال : " الطواف صحيح ، والسعي صحيح ، لأن النبي طاف وهو صحيح ، أما حديث ابن عباس أنه اشتكى فركب ، فضعيف ، فيه يزيد بن أبي زياد ، الصواب أنه ركب لدفع المشقة على الناس لئلا يتأذوا أو يؤذوه ". " انتهى . الوجه(أ) من الشريط 4 من شرحه رحمه الله على كتاب " المناسك من المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم ".
وذهب جمهور العلماء إلى منع الطواف والسعي راكبا دون عذر ، ومنهم من ألزمه الفدية إن فعله وتعذرت الإعادة، ومنهم من أبطل الطواف والسعي وأوجب الإعادة كما هو مذهب الحنابلة.
قال ابن الجوزي : " واختلفوا فيمن طاف راكبا من غير عذر، فعن أحمد روايتان:
إحداهما: يجزيه ولا دم عليه ، وهو قول الشافعي.
والأخرى لا يجزيه .
وقال أبو حنيفة ومالك: يجزيه وعليه دم". انتهى "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (2/433).
قال ابن قدامة : " فَأَمَّا الطَّوَافُ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ.
وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ ... لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا رَاكِبًا لِغَيْرِ عُذْرٍ ، كَالصَّلَاةِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُجْزِئُهُ ، وَيَجْبُرُهُ بِدَمٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ". المغني لابن قدامة (5/ 250).
وحكم السعي والطواف واحد عند جمهور العلماء ، قال المرداوي :" السَّعْيُ رَاكِبًا كَالطَّوَافِ رَاكِبًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ نَصَّ عَلَيْهِ " انتهى من " الإنصاف " (4/13) .
والحاصل :
أن الطائف أو الساعي ينبغي أن يطوف ويسعى ماشيا إلا من عذر ، فذلك هو الأفضل بإجماع العلماء .
فإن طاف أو سعى راكبا من دون عذر ، فقد سبق بيان اختلاف العلماء فيه .
والظاهر أن طوافه وسعيه صحيح ، إن شاء الله .
على أنه لا ينبغي للإنسان أن يفعل ذلك ابتداءً تحوطا لعبادته، وخروجا من خلاف العلماء.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " بعض الناس يتهاون بذلك، ويسعى على العربة بدون عذر، مع أن كثيراً من أهل العلم قالوا: إن السعي راكباً لا يصح إلا بعذر .
وهذه المسألة : مسألة خلاف بين العلماء، أي هل يشترط في السعي أن يكون الساعي ماشياً إلا من عذر أو لا يشترط؟
ولكن الإنسان ينبغي له أن يحتاط لدينه، وأن يسعى ماشياً مادام قادراً، فإن عجز فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها " انتهى من " مجموع الفتاوى " (22/451) .
والله أعلم
تعليق