الحمد لله.
أولا :
المسلمون مجمعون على الاعتقاد بأن الله تعالى متصف بأقصى ما يمكن من الكمال ، وأنه منزه عن كل نقص مهما خف وقلّ ، وأقوال علماء المسلمين متواترة على اتصاف الله تعالى بالكمال المطلق ، ومن ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" الكمال ثابت لله ، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية ، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى يستحقه بنفسه المقدسة ، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه ؛ فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت ، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل ، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز ، وأن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية ، مع دلالة السمع – أي نصوص الوحي - على ذلك " انتهى من " مجموع الفتاوى " (6 / 71) .
ويقول : " فالإجماع منعقد على أنه تعالى لا يوصف بغير صفة الكمال" انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (2/330) .
ويقول : " ومما يبين الأمر في ذلك : أن المسلمين متفقون على تنزيه الله تعالى عن العيوب والنقائص ، وأنه متصف بصفات الكمال ؛ لكن قد يتنازعون في بعض الأمور : هل النقص في إثباتها ، أو نفيها ، وفي طريق العلم بذلك . " انتهى من " منهاج السنة النبوية" (2/563) .
ويقول أيضا : " ومعلوم أن الإجماع على تنزيه الله تعالى عن صفات النقص، متناول لتنزيهه عن كل نقص من صفاته الفعلية وغير الفعلية " انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (4/89) .
ثم إن هذا أيضا ما تقضي به العقول
السليمة ؛ فكيف يعبد الإنسان ربا ، لا يعتقد فيه الكمال المطلق ، أو يظن أن يتطرق
النقص إلى ذاته ، أو شيء من صفاته ؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" النقص منفي عنه عقلًا، كما هو منفي عنه سمعًا، والعقل يوجب اتصافه سبحانه بصفات
الكمال، والنقص هو ما ضادَّ صفات الكمال" انتهى من "شرح الأصبهانية" (412) .
ثم هو أيضا مقتضى الفطر السليمة التي لم تفسد ، ولم تغير عن أصل خلقتها ؛ كما قال
الله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم/30
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" الإقرار بالخالق وكماله يكون فطريا ضروريا في حق من سلمت فطرته ، وإن كان مع ذلك
تقوم عليه الأدلة الكثيرة .
وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس ، عند تغير الفطرة ، وأحوال تعرض لها."
انتهى . "مجموع الفتاوى" (6/73) .
ثانيا :
فكما سبق من كلام شيخ الإسلام ، فإن نصوص الوحي ومنها آيات القرآن قد دلت على إثبات
الكمال لله تعالى .
لكن مما يجب الانتباه إليه بداية ؛ هو أن المعاني لأي كتاب لا تؤخذ فقط من ظواهر
ألفاظه بل تراعى أيضا طرقا أخرى ؛ ومن الطرق التي اتفق عليها العقلاء في كل ملة أن
المعاني تؤخذ أيضا بالاستقراء وبالإشارة ومن سياق النص وروحه ومن الدلالات المعتبرة
لألفاظ النص .
فإذا راعينا هذا ؛ فإنه يمكن القول أن صفة الكمال وإن لم تأت بهذا اللفظ في القرآن
إلا أن آيات القرآن قد دلت عليها من عدة أوجه ؛ ومن أهمها وأوضحها :
الوجه الأول : بالاستقراء لنصوص القرآن الكريم نجد أن الله تعالى قد وصف نفسه بصفات
الكمال .
وقد سمى الله تعالى نفسه بكثير من صفات الكمال هذه ثم وصف أسماءه هذه بالحسنى في
عدد من آيات القران ؛ ومن ذلك قوله تعالى :
( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الأعراف (180)
.
فإذا كان الله تعالى متصفا بغاية الكمال في الحسن ، لزم من هذا انتفاء ما يضادها من
الأوصاف الناقصة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد ، فكل ما
ضاد ذلك فالسمع ينفيه ، كما ينفي عنه المثل والكفؤ ، فإن إثبات الشيء نفي لضده ،
ولما يستلزم ضده ، والعقل يعرف نفي ذلك ، كما يعرف إثبات ضده ، فإثبات أحد الضدين
نفي للآخر ولما يستلزمه .
فطرق العلم بنفي ما ينزه الرب عنه متسعة " انتهى من " مجموع الفتاوى " (3 / 84) .
ولهذا عقب الله تعالى على هذا الوصف – بأن له الأسماء الحسنى - في آية أخرى بأن
أثبت أنه المستحق للتسبيح .
فقال تعالى :
( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
الحشر (24) .
والتسبيح : في اللغة : هو التنزيه .
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى :
" وأصل التسبيح : التنزيه والتقديس والتبرئة من النقائص ، ثم استعمل في مواضع تقرب
منه اتساعا " انتهى . " النهاية في غريب الحديث " (2 / 331) .
فإذا كانت صفات الله كلها بالغة في الحسن غاية الكمال ، وهو سبحانه منزه مع ذلك عن
كل ما يعيب . فهذا دليل من القرآن واضح على كمال الله سبحانه وتعالى .
الوجه الثاني :
جاءت آيات قرآنية كثيرة بتسبيح الله تعالى والأمر بذلك ، والتسبيح في اللغة كما سبق
هو التنزيه ، وتنزيه الله تعالى يتضمن نفي كل نقص ، فإذا نفي كل نقص عن الله تعالى
، لم يبق من صفاته إلا ما يدل على الكمال .
ولاقتضاء التنزيه لكمال الله تعالى ، اقترن به في عدد من الآيات حمد الله لأنه يشعر
بهذا الكمال بل يستلزمه .
كما في قوله تعالى :
( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلَامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الصافات (180 – 182) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية :
" ينزه تعالى نفسه الكريمة ويقدسها ويبرئها عما يقوله الظالمون المكذبون المعتدون
...
( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أي : له الحمد في الأولى والآخرة في
كل حال .
ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص ، بدلالة المطابقة ، ويستلزم
إثبات الكمال ، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة ، ويستلزم التنزيه
من النقص ؛ قرن بينهما في هذا الموضع ، وفي مواضع كثيرة من القرآن " انتهى من "
تفسير ابن كثير " (7 / 46) .
الوجه الثالث :
إذا علمنا كما سبق أن الله نزه نفسه عن كل نقص ، وأن هذا يلزم منه أنه لا يتصف إلا
بما يُحْمد عليه ، فإن الله تعالى أخبر أنه في هذه الصفات المحمودة عال على صفات
خلقه ، لا يدركه فيها أحد ، وهذا غاية الكمال .
فقال الله تعالى في بيان علوه على خلقه بذاته وصفاته :
( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ،
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) غافر (14 – 15) .
وقال تعالى :
( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ ) الروم (27) .
ونفى أن يشابهه أحد من خلقه فقال تعالى :
( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الشورى (11) .
وهذا كله يشير إلى غاية الكمال في صفات الله تعالى .
الوجه الرابع :
أن الله سمى نفسه بأسماء ، كل واحد منها يدل على عموم كماله تعالى وبراءته من
النقائص ؛ ومن ذلك :
1- القدوس .
قال الله تعالى :
( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ
الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) الجمعة (1) .
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى :
" في أسماء الله تعالى " القدوس " : هو الطاهر المنزه عن العيوب . وفُعُّول :
من أبنية المبالغة " انتهى . " النهاية " (4 / 23) .
2- السّلام .
قال الله تعالى :
( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ )
الحشر (23) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" ولما كان " السلام " اسما من أسماء الرب تبارك وتعالى ، وهو اسم مصدر في الأصل -
كالكلام والعطاء – بمعنى السلامة ، كان الرب تعالى أحق به من كل ما سواه ؛ لأنه
السالم من كل آفة وعيب ونقص وذم ، فإن له الكمال المطلق من جميع الوجوه ، وكماله من
لوازم ذاته ، فلا يكون إلا كذلك ، والسلام يتضمن سلامة أفعاله من العبث والظلم
وخلاف الحكمة ، وسلامة صفاته من مشابهة صفات المخلوقين ، وسلامة ذاته من كل نقص
وعيب ، وسلامة أسمائه من كل ذم ؛ فاسم " السلام " يتضمن إثبات جميع الكمالات له
وسلب جميع النقائص عنه " انتهى من " أحكام أهل الذمة " (1 / 413 – 414) .
3- الصمد .
قال الله تعالى :
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ) الإخلاص (1 – 2) .
روى الطبري في "تفسيره" (24/736) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: الصَّمَدُ
[الإخلاص: 2] يَقُولُ: السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدَدِهِ،
وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ عَظُمَ
فِي عَظَمَتِهِ، وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ، وَالْغَنِيُّ
الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَالْجَبَّارُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي
جَبَرُوتِهِ، وَالْعَالِمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي
قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ
وَالسُّؤْدَدِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ صِفَتُهُ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا
لَهُ .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
" قال بعض العلماء : الصمد السيد ، الذي يلجأ إليه عند الشدائد والحوائج .
وقال بعضهم : هو السيد الذي تكامل سُؤْدُدُه ، وشرفه ، وعظمته ، وعلمه ، وحكمته .
وقال بعضهم : " الصمد " هو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ؛ وعليه فما
بعده تفسير له .
وقال بعضهم : هو الباقي بعد فناء خلقه .
وقال بعضهم : " الصمد " هو الذي لا جوف له ، ولا يأكل الطعام ...
من المعروف في كلام العرب إطلاق الصمد على السيد العظيم ، وعلى الشيء المصمت الذي
لا جوف له ...
فإذا علمت ذلك ، فالله تعالى هو السيد الذي هو وحده الملجأ عند الشدائد والحاجات ،
وهو الذي تنزه وتقدس وتعالى عن صفات المخلوقين ، كأكل الطعام ونحوه ، سبحانه وتعالى
عن ذلك علوا كبيرا " انتهى من " أضواء البيان " (2 / 220 - 221) .
4- الحميد :
قال الله تعالى :
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) فاطر (15) .
قال الخطابي رحمه الله تعالى :
" الحميد : هو المحمود الذي استحق الحمد بفعاله ، وهو فَعِيْل بمعنى مَفْعولٍ ، وهو
الذي يحمد في السراء والضراء ، وفي الشدة والرخاء ، لأنه حكيم لا يجري في أفعاله
الغلط ، ولا يعترضه الخطأ ؛ فهو محمود على كل حال " انتهى من " شأن الدعاء " (ص 78)
.
تعليق