الخميس 18 جمادى الآخرة 1446 - 19 ديسمبر 2024
العربية

الأصل في الحيوانات الإباحة وفي الذبائح واللحوم التحريم

السؤال

ثمة قاعدة فقهية أوردها العلامة السعدي في منظومته نصها أن الأصل في اللحوم الحرمة ، وقد علق عليها تلميذه ابن عثيمين بأنها لا تشمل الحيوانات ، بل هذه الأصل بها الإباحة ، لكن القاعدة في اللحم كصيد سقط في الماء أو ذبيحة مجهول ذابحها ، وقد تكلم أحد المشايخ بكلام بنحو هذا حينما كان يرد على هذه القاعدة في كلام العلامة ابن القيم فأنكرها عليه ، لكن أقر بنحو كلام ابن عثيمين في أنه إذا تداخل سبب تحريم وسبب حل فيقدم التحريم ، وذكر مسألة الصيد لو سقط في الماء ، واستدل على رد القاعدة بأكل الصحابة الحمر الأهلية قبل تحريمها ، ولم يكن قد ورد فيها دليل على حلها ، فذكر أنه لم يكن من خلاف بين الصحابة في حل اللحوم ، أما هذا الخلاف فنشأ فيمن بعدهم ، وقد ذكر هذه القاعدة أهل الفقة ، فهل ذكرها في كتبهم يحمل على إطلاقها من حيث أن الأصل في اللحم والحيوانات الحرمة ؟ ومن الفقهاء المتقدمين أخذ بهذه القاعدة على إطلاقها و من منهم قيدها ضمن التفصيل الذي ذكره الشيخ ابن عثيمين من حيث أنها تشمل اللحوم دون الحيوانات ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

الأصل في الذبائح أو اللحوم التحريم، فلا تحل الذبيحة إلا إذا علمنا أنها ذكيت على الوجه المشروع .

ومن كلام أهل العلم في تقرير هذا الأصل:

1- قال النووي رحمه الله: "فيه بيان قاعدة مهمة وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان : لم يحل؛ لأن الأصل تحريمه، وهذا لا خلاف فيه" انتهى من شرح صحيح مسلم (13/116).

2-وقال الرافعي رحمه الله: "وليست اللحوم على الإباحة أيضاً؛ ألا ترى أنه لو ذبح المشرف على الموت وشك في أن حركته عند الذبح كانت حركة المذبوح أو حياة مستقرة، يغلب التحريم" انتهى من فتح العزيز شرح الوجيز (1/280).

3-وقال ابن القيم رحمه الله: "ثم النوع الثاني : استصحاب الوصف المُثْبِت للحُكم ، حتى يثبت خلافه ، وهو حجة ، كاستصحاب حكم الطهارة ، وحكم الحدث ، واستصحاب بقاء النكاح ، وبقاء المِلك ، وشغل الذمة بما تشغل به ، حتى يثبت خلاف ذلك ، وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد : (وإن وجدته غريقاً فلا تأكله ؛ فإنك لا تدري الماءُ قتله أو سهمك) ، وقوله : (وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ؛ فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره).

لمَّا كان الأصل في الذبائح : التحريم ، وشك : هل وجد الشرط المبيح أم لا ؟ بقي الصيد على أصله في التحريم" انتهى من "إعلام الموقعين" (1/339، 340).

وقال أيضاً: "إن باب الذبائح على التحريم، إلا ما أباحه الله ورسوله، فلو قدر تعارض دليلي الحظر والإباحة، لكان العمل بدليل الحظر أولى لثلاثة أوجه:

أحدها: تأييده الأصل الحاظر.

الثاني: أنه أحوط.

الثالث: أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا ورجعا إلى أصل التحريم" انتهى من أحكام أهل الذمة (1/538، 539).

4-وقال ابن رجب الحنبلي : "وما أصله الحظر، كالأبضاع ولحوم الحيوان: فلا يحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر: رجع إلى الأصل، فبنى عليه، فيبني فيما أصله الحرمة، على التحريم .

ولهذا نهى النبي عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه ، أو كلب غير كلبه، أو يجده قد وقع في ماء ؛ وعلل: بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره" انتهى من جامع العلوم والحكم ص93.

5-وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في منظومة القواعد :

"والأصل في الأبضاع واللحوم *** والنفس والأموال للمعصوم

تحريمها حتى يجيء الحلُّ *** فافهم هداك الله ما يُمَلُّ".

ثم قال رحمه الله في شرحها:

"يعني أن الأصل في هذه الأشياء التحريم حتى نتيقن الحل.

فالأصل في الأبضاع : التحريم . والأبضاع: وطء النساء، فلا يحل إلا بيقين الحل، إما بنكاح صحيح، أو ملك يمين .

وكذلك اللحوم، الأصل فيها التحريم، حتى يُتيقن الحل.

ولهذا إذا اجتمع في الذبيحة سببان: مبيح ، ومحرِّم، غلِّب التحريم، فلا يحل المذبوح والمصيد" انتهى من المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي، الفقه (1/ 142) .

6-وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين : "الأصل في الذبائح والذكاة التحريم ، حتى نعلم كيف وقع الذبح، وكيف وقعت الذكاة، وذلك لأن من شروط الحل : أنه ذكي أو ذبح على وجه شرعي" انتهى من فتاوى الصيد (ص26-27) إعداد : عبدالله الطيار.

ثانيا:

قد يعبر بعضهم بقوله: الأصل في الحيوان التحريم، ويريد الحيوان المذبوح وأنه لابد من ثبوت التذكية المعتبرة، ولا يريد الحيوان الحي .

ومن ذلك قول الخطابي رحمه الله : "البهيمة أصلها على التحريم ، حتى تتيقن وقوع الذكاة؛ فهي لا تستباح بالأمر المشكوك" انتهى من معالم السنن (4/282).


وقول الشاطبي رحمه الله: "فالأصل في الأبضاع المنع ، إلا بالأسباب المشروعة، والحيوانات : الأصل في أكلها المنع ، حتى تحصل الذكاة المشروعة، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة" انتهى من الموافقات (1/401).

ثالثا:

أما الحيوان الحي : فالأصل فيه الحل إلا ما استثني؛ لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) البقرة/29

وهي دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة، ويدخل في ذلك الحيوانات والنباتات وغيرها، حتى يثبت موجب التحريم، كالنهي عن أكله، كما نهي عن أكل الخنزير، والحمر الأهلية، أو أكل كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير، أو النهي عن قتله، كالنهي عن قتل الهدهد والصُّرد، أو الأمر بقتله، كالأمر بقتل الحية والفأر، أو ثبوت ضرره، أو كونه مستخبثا؛ لقوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) الأعراف/157

وفي الموسوعة الفقهية (18/ 336):

" ما يتأتى أكله من الحيوان يصعب حصره، والأصل في الجميع الحل في الجملة إلا ما استثني فيما يلي:

الأول الخنزير: فهو محرم بنص الكتاب والسنة وعليه الإجماع.

واختلفوا فيما عداه من الحيوان: فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يحل أكل كل ذي ناب من السباع: كالأسد، والنمر، والفهد، والذئب، والكلب وغيرها، ولا ذي مخلب من الطير كالصقر، والبازي. والنسر، والعقاب والشاهين وغيرها. لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير.

ثم اختلفوا في تحليل وتحريم بعض آحاد الحيوان، كالخيل، والضبع، والثعلب، وأنواع الغراب وغيرها. ينظر تفصيلها في مصطلح (أطعمة) .

وانعقد المذهب عند المالكية في رواية، أنه يؤكل جميع الحيوان من الفيل إلى النمل والدود، وما بين ذلك ، إلا الآدمي والخنزير فهما محرمان إجماعا.

وكذلك لا يحرم عندهم شيء من الطير في رواية، وبه قال الليث والأوزاعي، ويحيى بن سعيد. واحتجوا بعموم الآيات المبيحة، وقول أبي الدرداء وابن عباس: ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه .

الثاني: ما أمر بقتله كالحية، والعقرب، والفأرة، وكل سبع ضارٍ كالأسد، والذئب، وغيرهما مما سبق.

الثالث: المستخبثات: فإن من الأصول المعتبرة في التحليل والتحريم : الاستطابة، والاستخباث. ورآه الشافعي رحمه الله الأصل الأعظم والأعم. والأصل في ذلك قوله تعالى: (ويحرم عليهم الخبائث) ، وقوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) " انتهى.

وينظر: الموسوعة الفقهية (5/ 132- 147) ففيها تفصيل الكلام على الحيوان البري وأنه ثلاثة عشر نوعا، مع ذكر الخلاف الوارد فيها.

والحاصل :

أن التفريق بين الحيوان الحي، واللحم أو الذبيحة، تفريق معلوم ثابت، وأن الأصل في الحيوان الحي الإباحة، بخلاف اللحم أو الذبيحة فالأصل فيها التحريم.

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " الأصل في اللحوم هو الحل أو التحريم؟

فأجاب: الأصل في اللحوم التحريم لا في الحيوان، الأصل في الحيوان الحل ، والأصل في اللحوم التحريم حتى نعلم أو يغلب على ظننا أنها مباحة.

يعني: لو شككنا في هذا الحيوان هل هو حلال أو حرام؟ فهو حلال فنذكيه ونأكله، لكن لو شككنا في هذا اللحم هل هو مذكى أو ميتة؟ فالأصل التحريم، حتى يغلب على ظننا أنه حلال..." انتهى من لقاء الباب المفتوح (234/ 9).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب