السبت 18 شوّال 1445 - 27 ابريل 2024
العربية

لماذا يشترط الاستيطان لإقامة صلاة الجمعة؟

283385

تاريخ النشر : 06-11-2023

المشاهدات : 2148

السؤال

أرجو بيان الدليل على أن الاستيطان شرط من شروط صحة الجمعة، ‏فلم أقف على دليل لذلك إلا ما ثبت ‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أهل البادية بالجمعة، ‏وهذا يدل على إنه لا يجب عليهم أن يقيمو الجمعة، ولا يدل على إنها لا تصح منهم، ‏وكذلك فإن جمهور العلماء لا يوجبون على المقيمين غير المستوطنين الجمعة، إلا إذا كان معهم العدد من المستوطنين الذي تنعقد بهم الجمعة، ‏ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏رخص ‏في ترك الجمعة إلا لخمس، العبد، والمرأة، الصبي، والمريض، والمسافر، والمقيم ليس مسافرا، ‏ولا يحل له ‏أن يترخص ‏برخص المسافر، ‏وكذلك لا يخفى إنه ليس من أهل البادية ‏الذين لم يأمرهم ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الجمعة. ‏ولم ‏يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الاستيطان شرط في صحة الجمعة، أو في وجوبها. ‏فكيف لا تجب، على المقيمين صلاة الجمعة استقلالا من غير عدد من المستوطنين، وكذلك لا تصح منهم؟ فالذي يقيم في مدينة أو قرية، سواء نوي إقامة أبدية أو مؤقته، فانه ليس مسافرا، وليس من أهل البادية، وأهل البادية لا يسكنون المدن والقرى، فلا تجب عليهم الجمعة. اما من يسكن المدن والقرى فتجب عليه حضور الجمعة إذا كان من أهلها، والمقيم غير المستوطن بنية أبدية يسكن في المدن والقرى، وإن كنات نيته مؤقته، لا سيما البعض ربما ينوي البقاء سنين طويلة، وربما لا يكون في المدينة من المسلمين إلا غير المستوطنين، إذا كانت البلد كافرة، فعلى قول الجمهور لا تصح منهم الجمعة حتى إذا كانو أولوفا، وعزموا على البقاء مدة طويلة، كيف هذا؟

الجواب

الحمد لله.

الناس بالنسبة للسفر والإقامة-على المشهور عند العلماء- ثلاثة أنواع :

مستوطن، ومسافر، ومقيم.

النوع الأول : المستوطن ، وهو من اتخذ المكان وطنا ، وأقام فيه إقامة دائمة .

فمن كان هذا حاله، فإنه تجب عليه الجمعة بلا خلاف، إذا توفرت سائر شروط وجوبها ؛ وذلك لأن قوله تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الجمعة/9، قد نزل ابتداء مخاطبا المستوطنين بالمدينة، وسياقها يدل على الاستيطان.

قال الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى:

" فلا تصح في غير وطن، ولا تلزم غير مستوطن، ومن قال بغير ذلك فقد خالف الأئمة، وشذ عن الأمة، وليس له سلف فيما ذهب إليه، والذي قاله الجمهور يشهد له سياق القرآن الكريم بالإيماء والإشارة؛ لأننا لو أخذنا بعين الاعتبار الأمر بالسعي إلى ذكر الله، وترك البيع حتى لا يشغل عنها، ثم الانتشار في الأرض بعد قضائها؛ لتحصل عندنا من مجموع ذلك كله: أن هناك جماعة نوديت، وكُلِّفْتْ باستجابة النداء والسعي، ثم الكف عن البيع الذي يشغل عن السعي، ومثل هذا البيع الذي يكلفون بالكف عنه، والذي يخشى منه شغل الناس عن السعي إلى الجمعة: لا يكون عقدا بين اثنين فقط، ولا يكون عملا فرديا، بل يُشعر بأنه عمل بين أفراد عديدين، ومبايعات متعددة، مما يشكل حالة السوق، والسوق لا يكون في البوادي، بل في القرى وللمستوطنين " انتهى من "تتمة أضواء البيان" (8/304).

وعلى هذا ؛ فأهل البوادي، وهم الذين لا يقيمون في مكان إقامة دائمة ، وإنما يتنقلون صيفًا وشتاءً يتتبعون مواضع المطر والنبات والماء ، فلا تجب عليهم الجمعة ، ولا تصح منهم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بإقامة الجمعة ، ولو كانت صحيحة منهم لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها – أمر استحباب على الأقل - لأن إقامة الجمعة أفضل من صلاة الظهر .

فعدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البوادي بإقامة الجمعة، يدل على أنها غير صحيحة منهم .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

"  قوله: ( لم تقم الْجُمُعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء الراشدين إلا في موضع الإقامة، ولم يقيموا الْجُمُعَة إلاَّ في موضع واحد، ولم يجمعوا إلا في المسجد الأعظم، مع أنهم أقاموا العيد في الصحراء والبلد، للضعفة وقبائل العرب كانوا مقيمين حول المدينة، وما كانوا يصلون الْجُمُعَة ولا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها ).

ذكر هذا مفرَّقًا، وكلّ هذه الأشياء المنفية: مأخذُها بالاستقراء، فلم يكن بالمدينة مكان يجمع فيه إلا مسجد المدينة" انتهى من "التلخيص الحبير" (3/ 991-992).

وجاء في "الموسوعة الفقهية" (8/46):

"سُقُوطُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ:

لاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أَهْل الْبَادِيَةِ. وَلَوْ أَقَامُوهَا فِي بَادِيَتِهِمْ لاَ تَصِحُّ جُمُعَةٌ لِعَدَمِ الاِسْتِيطَانِ، حَيْثُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا الْبَدْوُ مِمَّنْ كَانُوا حَوْل الْمَدِينَةِ، وَلاَ قَبَائِل الْبَادِيَةِ مِمَّنْ أَسْلَمُوا ، وَلاَ أَقَامُوهَا، وَلَوْ أَقَامُوهَا لَنُقِل ذَلِكَ ، بَل لاَ تُجْزِئُهُمْ عَنِ الظُّهْرِ، وَلَكِنْ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَوْضِعٍ يَسْمَعُونَ فِيهِ نِدَاءَ الْحَضَرِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ" انتهى.

وقال أبو إسحق الشيرازي الشافعي رحمه الله في "المهذب" :

"ولا تصح الجمعة إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة، من بلد أو قرية ، لأنه لم تقم الجمعة في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ولا في أيام الخلفاء؛ إلا في بلد أو قرية، ولم ينقل أنها أقيمت في بدو" انتهى.

قال النووي رحمه الله في شرحه "المجموع" (4/367):

"قال أصحابنا : يشترط لصحة الجمعة أن تقام في أبينة مجتمعة ، يستوطنها شتاء وصيفا : من تنعقد بهم الجمعة .

قال الشافعي والأصحاب : سواء كان البناء من أحجار أو أخشاب أو طين أو قصب أو سعف أو غيرها ، وسواء فيه البلاد الكبار ذوات الأسواق ، والقرى الصغار ، والأسراب المتخذة وطنا . فإن كانت الأبنية متفرقة لم تصح الجمعة فيها بلا خلاف ، لأنها لا تعد قرية ، ويرجع في الاجتماع والتفرق الي العرف ، وقد أهمل المصنف اشتراط كونها مجتمعة ، مع أنه ذكره في التنبيه ، واتفقوا عليه.

وأما أهل الخيام : فإن كانوا ينتقلون من موضعهم شتاء أو صيفا ، لم تصح الجمعة فيها، بلا خلاف ... إلخ" انتهى.

النوع الثاني: المسافر.

وأكثر أهل العلم على عدم وجوب صلاة الجمعة على المسافرين ، سواء كانوا نازلين أو سائرين.

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:

" قال كثير من أهل العلم: لا جمعة على المسافر" انتهى من "الإشراف" (2/84).

وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:

" وأما المسافر : فأكثر أهل العلم يرون أنه لا جمعة عليه كذلك. قاله مالك في أهل المدينة، والثوري في أهل العراق، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور وروي ذلك عن عطاء، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، والشعبي " انتهى من "المغني" (3/216).

ودليل هذا : فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان يسافر ولم يكن يصلي الجمعة في سفره ، وإنما كان يصليها ظهرًا ،  كما يظهر ذلك صريحا في حجته صلى الله عليه وسلم ، وقد كان معه جمع كبير جدًّا من المسلمين ، وكانوا نازلين غير سائرين ، ورغم هذا لم يقم الجمعة ولا مانع له من إقامتها إلا أنه مسافر، وعلى هذا مضى أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.

قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:

" حديث: ( أنه صلى الله عليه وسلم سافر هو وأصحابه في الحج وغيره ، فلم يصل أحد منهم الجمعة فيه ، مع اجتماع الخلق الكثير ).

وإن كنت لم أره مروياً بهذا اللفظ، ولكن الاستقراء يدل عليه، وقد ثبت في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم وغيره: ( حتى أتى عرفة ... فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ).

وقد كان ذلك يوم جمعة كما في الصحيحين وغيرهما " انتهى من "إرواء الغليل" (3/60).

وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:

" ولنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع بعرفة يوم جمعة، فصلى الظهر والعصر، وجمع بينهما، ولم يصل جمعة ، والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ... " انتهى من "المغني" (3/ 216-217).

وبناء على هذا قالوا بأن المسافرين لا يصح لهم أن يستقلوا بإقامة الجمعة.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

" فإذا قال قائل: ترك النبي صلى الله عليه وسلم للجمعة لا يدل على أنها غير مشروعة؟

فالجواب: بلى؛ لأنها لو كانت مشروعة لكانت عبادة، وهي فريضة واجبة، ولا يمكن أن يدع النبي صلى الله عليه وسلم الواجب، فإذا كان سبب الفعل موجودا، ولم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ علم أن فعله يكون بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).

وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم: ( كل شيء سببه موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله، فالتعبد به بدعة )، فالجمعة في السفر سببها موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يفعلها، فإذا فعلها إنسان قلنا له: عملت عملا ليس عليه أمر الله ورسوله، فيكون عملا مردودا " انتهى من "الشرح الممتع" (5/12).

وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (8/181):

"أما القول بوجوب الجمعة على البادية، فلا أصل له في الشرع المطهر، وكانت البوادي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حول مكة والمدينة وغير ذلك من الجزيرة ، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بصلاة الجمعة، وإنما كانوا يصلون ظهرا، ولأن طبيعة البادية التنقل والتفرق في الأرض بطلب الرعي والماء، ومن رحمة الله سبحانه أن أسقط عنهم فرض الجمعة، ولأن لهم شبها بالمسافرين، والمسافر لا جمعة عليه، وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم أسفارا كثيرة لا تحصى، ولم يعلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام الجمعة في شيء من أسفاره، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه في حجة الوداع صلى يوم الجمعة ظهرا، ولم يصل جمعة، وكان ذلك في يوم عرفة بمشهد الجم الغفير من المسلمين؛ فعلم بذلك عدم شرعية الجمعة للمسافرين وأمثالهم من البادية.

وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

الشيخ عبد الله بن قعود ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى .

النوع الثالث : وهو المقيم .

وهو المسافر الذي أقام في بلد مدةً تقطع عند وصف السفر، كما لو أقام ببلد شهرا أو أكثر من ذلك ، فهذا المقيم يشبه المستوطن من وجه ، ويشبه المسافر من وجه آخر .

أما شبهه بالمستوطن: ففي إقامته الطويلة ، وعدم ترخصه برخص السفر ، ولكنه لا يعطى حكم المستوطن ، لأنه لم يقم في المكان إقامة دائمة ، بل في نيته وعزمه الرجوع إلى بلده .

وأما شبهه بالمسافر: فلأنه عازم على العودة إلى بلده ، ولكنه لا يعطى حكم المسافر، لأنه بإقامته الطويلة زال عنه وصف السفر، ولهذا لا يترخص برخص السفر، كقصر الصلاة.

ولهذا أعطى العلماء المقيم حكما بين المسافر والمستوطن، فقالوا : تجب عليه الجمعة إن أقامها غيره من المستوطنين.

بل هذا المسافر الذي أقام في المدينة إقامة طويلة هو أشبه بأهل البادية ، في طول الإقامة مع العزم على التنقل وعدم الاستيطان بالمكان ، وقد تقدم أن أهل البادية لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم ، لكن .. لما كان هذا المسافر مقيما داخل مدينة ، وجبت عليه الجمعة إن أقامها المستوطنون في المدينة .

وسيأتي في كلام ابن قدامة رحمه الله تشبيه المقيم بأهل البادية الذين يقيمون في المكان صيفًا ويرتحلون عنه شتاءً .

جاء في "روضة الطالبين" [شافعي] (2/37) :

"الغريب إذا أقام ببلد ، واتخذه وطنا : صار له حكم أهله في وجوبها وانعقادها به .

وإن لم يتخذه وطنا ، بل عزمه الرجوع إلى بلده بعد مدة يخرج بها من كونه مسافرا ، قصيرة أو طويلة ، كالتاجر والمتفقه ؛ لزمه الجمعة ، ولا تنعقد به ، على الأصح" انتهى .

وفي تحفة المحتاج [شافعي] (2/434) :

"فَلَا تَنْعَقِدُ بِمَنْ يَلْزَمُهُ حُضُورُهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَوْطِنِينَ" انتهى .

وجاء في "شرح مختصر خليل للخرشي" [مالكي] (2/72) في ذكر شروط وجوب صلاة الجمعة وصحتها:

"الِاسْتِيطَانِ ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى نِيَّةِ التَّأْبِيدِ ، وَلَا تَكْفِي نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ طَالَتْ" انتهى .

وفيه أيضا (2/80) :

"فَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ ، وَلَا مُقِيمٍ ، وَلَوْ نَوَى إقَامَةً زَمَنًا طَوِيلًا ؛ إلَّا تَبَعًا" انتهى .

وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" [حنبلي] (3/218) :

"إذَا أَجْمَعَ الْمُسَافِرُ إقَامَةً تَمْنَعُ الْقَصْرَ ، وَلَمْ يُرِدْ اسْتِيطَانَ الْبَلَدِ ، كَطَالِبِ الْعِلْمِ ، أَوْ الرِّبَاطِ ، أَوْ التَّاجِرِ الَّذِي يُقِيمُ لِبَيْعِ مَتَاعِهِ ، أَوْ مُشْتَرِي شَيْءٍ لَا يُنْجَزُ إلَّا فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَدَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَهَا إلَّا عَلَى الْخَمْسَةِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُمْ .

وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَوْطِنٍ ، وَالِاسْتِيطَانُ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِي هَذَا الْبَلَدِ عَلَى الدَّوَامِ ، فَأَشْبَهَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَهَا صَيْفًا، وَيَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ : لَا يُجَمِّعُونَ وَلَا يُشَرِّقُونَ ، أَيْ لَا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَلَا عِيدًا" انتهى .

والوجه الثاني الذي ذكره ابن قدامة : هو المذهب عند الحنابلة ، إلا أنه تجب عليه الجمعة إن أقامها المستوطنون .

قال المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (5/170):

"لو أقامَ مدَّةً تمْنَعُ القَصْرَ، ولم ينْوِ اسْتِيطانًا، فالصَّحيحُ مِنَ المذهبِ؛ أنَّ الجُمُعَةَ تلْزَمُه بغيرِه. قدَّمه فى الفُروعِ. وقال: إنَّه الأشْهَرُ" انتهى .

 وسئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله عدة أسئلة من إحدى الجمعيات الإسلامية في دولة غربية، عن إقامة الجمعة في مدينتهم، فكان جوابه:" ...المسألة الثانية: إقامتكم الجمعة في البلد التي أنتم فيها، والحكم فيها يتحرر بتحرير الأمور التالية:

أ- هل تقام الجمعة في السفر؟

ب- هل يشترط لها عدد معين؟

ج- هل تقام في غير البلاد الإسلامية؟

فأما الأول: فإن جمهور العلماء على أن الجمعة لا تقام في السفر؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفاءه الراشدين وأصحابه كانوا يسافرون ولا يقيمون الجمعة، فهذه حجة الوداع آخر سفر سافره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصادف يوم الجمعة فيه يوم عرفة، ولم يصلِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه صلاة الجمعة، قال جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي رواه مسلم في صفة حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيئاً. ولو كانت الجمعة مشروعة في السفر لفعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجوب إبلاغ الدين عليه، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو فعلها لنقل إلينا؛ لأن الله تكفل بحفظ الدين، فإذا انتفت مشروعية الجمعة في السفر انتفت صحتها وقبولها لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد. أي مردود، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة.

وعلى هذا ؛ فإذا لم يكن في البلد التي أنتم فيها جماعة من المسلمين مستوطنون؛ فإنها لا تقام فيها الجمعة؛ لأن المقيمين فيها من الطلاب الذين نيتهم تركها بعد انتهاء دراستهم : ليسوا مستوطنين ؛ فلهم حكم المسافرين في عدم إقامة الجمعة، بل هم مسافرون على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ؛ لهم حكم المسافرين في كل شيء.

أما إن كان في البلد التي أنتم فيها جماعة من المسلمين مستوطنون : فإن الجمعة تقام فيها ، وتصلونها معهم" انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (16/41).

على أن بعض العلماء –كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – لا يوافق على هذا التقسيم السابق، بل يرى أن الناس قسمان فقط: إما مسافر، وإما مقيم مستوطن.

أما القسم الثالث الذي سبق ذكره ، وهو المقيم إقامة طويلة من غير عزم على استيطان المكان فإنه يرى أنه مسافر، له أحكام المسافر. وقد أشار الشيخ ابن عثيمين إلى هذا في فتواه السابقة.

ولا يعني هذا أنه يرى أن هذا المسافر لا يصلي الجمعة ، ولو كان داخل مدينة تقام فيها الجمعة ، بل إنه يميل رحمه الله إلى إلزام المسافر بصلاة الجمعة إن كان داخل المدينة وأقامها المقيمون بها .

فقال رحمه الله :

"وَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنْ فِي الْمِصْرِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ - وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الْإِتْمَامُ - كَمَا لَوْ صَلَّوْا خَلْفَ مَنْ يُتِمُّ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ الْإِتْمَامَ تَبَعًا لِلْإِمَامِ ، كَذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ تَبَعًا لِلْمُقِيمِينَ ، كَمَا أَوْجَبَهَا عَلَى الْمُقِيمِ غَيْرِ الْمُسْتَوْطِنِ تَبَعًا مَنْ أَثْبَتَ نَوْعًا ثَالِثًا بَيْنَ الْمُقِيمِ الْمُسْتَوْطِنِ وَبَيْنَ الْمُسَافِرِ وَهُوَ الْمُقِيمُ غَيْرُ الْمُسْتَوْطِنِ فَقَالَ: تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ إلَّا مُقِيمٌ وَمُسَافِرٌ. وَالْمُقِيمُ هُوَ الْمُسْتَوْطِنُ وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ فَهُوَ مُسَافِرٌ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ، وَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا يَتَنَاوَلُهُمْ وَلَيْسَ لَهُمْ عُذْرٌ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إلَّا مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْهَا كَالْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ ، وَهَؤُلَاءِ قَادِرُونَ عَلَيْهَا؛ لَكِنْ الْمُسَافِرُونَ لَا يَعْقِدُونَ جُمُعَةً ، لَكِنْ إذَا عَقَدَهَا أَهْلُ الْمِصْرِ صَلَّوْا مَعَهُمْ ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ الْمُقِيمِ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (24/184).

وقد اختار هذا القول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ، كما في كما في "مجموع الفتاوى" (15/333).

وأخيرا ..

ما استشكله السائل ، من ترك المقيمين صلاة الجمعة سنين طويلة إذا لم يكن في المدينة مستوطنون يقيمونها .. لا شك أنه إشكال قوي ، وقد استشكله بعض العلماء ، كما في "حاشية عميرة" (4/43) حيث قال:

"ثُمَّ قَضِيَّةُ شَرْطِ الِاسْتِيطَانِ: أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فِي بَلَدٍ سِنِينَ كَثِيرَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ، وَلَيْسَ فِيهَا غَيْرُهُمْ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ، وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ وَإِنْ كَانَ هُوَ قَضِيَّةُ الْمُهَذَّبِ" انتهى.

وأجاب بعض العلماء عن هذا، بما حاصله: ما دام الشرع لم يَرد بإقامة الجمعة إلا من المستوطنين ، فهذا هو الواجب.

ذكر البجيرمي في حاشيته (5/317) كلام عميرة السابق ثم قال :

".. وَهُوَ مُشْكِلٌ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَذْهَبُ ، كَمَا قَالَهُ عَمِيرَةُ ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ قَاسِمٍ : يَكْفِي فِي الدَّلِيلِ: أَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِهَا التَّعَبُّدُ ، وَلَمْ تَثْبُتْ إقَامَتُهَا بِغَيْرِ مُسْتَوْطِنِينَ" انتهى.

ومن أجل قوة هذا الإشكال ، واختلاف العلماء في هذه المسألة : أجاز الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله لأحد المراكز الإسلامية في الغرب أن يقيموا الجمعة ، بالرغم من عدم وجود مستوطنين بالمدينة ، مع أنه أكد عليهم في الفتوى أنه يرجح عدم إقامتها .

فقال رحمه الله في إجابته لهم عن بعض الأسئلة:

" ج5 : وأما ترك إقامة الجمعة من غير المستوطنين ، ولو كانوا مقيمين ؛ فهذا ما ذكره فقهاء الحنابلة . وهو موضع خلاف بين أهل العلم:

فقهاء الحنابلة يرون أنه لا تصح الجمعة من هؤلاء، وهو المشهور عند الشافعية.

وفيه وجه للشافعية بالجواز.

فإن رأيتم أن في إقامتها مصلحة للإسلام والمسلمين ؛ فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس ، إن شاء الله تعالى، مع أني - والله - أرجح عدم إقامتها، إلا إذا كان معهم مستوطنون.

ومصلحة الاجتماع تحصل بدون إقامة الجمعة ، مثل أن تنظم ندوات شهرية، أو أسبوعية ، تلقى فيها الخطب، وتحصل المناقشات التي فيها الفائدة الحاصلة بخطبة الجمعة والاجتماع لها.

وأسأل الله لي ولكم العافية، والتوفيق للصواب، وليست هذه الأمور الشرعية تؤخذ بما يبدو من المصالح التي قد تحصل بغيرها بدون تعدٍّ لقواعد الشريعة، والله تعالى أحكم الحاكمين" انتهى من مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (16/59) .

وعليه ؛ فلو وجد مقيمون في بلد ليس معهم ثلاثة من المستوطنين، فلهم أن يقيموا الجمعة، كما هو وجه عند الشافعية والحنابلة، فإن كان معهم ثلاثة مستوطنون، أقاموا الجمعة تبعا لهم، عملا بالقول بأن الجمعة تصح من ثلاثة.

وينظر: جواب السؤال رقم: (7718)، ورقم: (14564). 

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب