الحمد لله.
أولًا:
من الواجبات الشرعية تعظيم شعائر الله تعالى.
قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ الحج/32.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه ، لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله " انتهى من " تفسير السعدي" (ص 538).
ومن هذا التعظيم؛ أن يكون دعاء العبد وذكره لله تعالى على وجه التعظيم بخشوع وتضرع واستكانة.
قال الله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ الأعراف/205.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" ( تَضَرُّعًا ) أي: متضرعا بلسانك، مكررا لأنواع الذكر، ( وَخِيفَةً ) في قلبك بأن تكون خائفا من الله، وَجِلَ القلب منه، خوفا أن يكون عملك غير مقبول، وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد في تكميل العمل وإصلاحه، والنصح به... " انتهى، من "تفسير السعدي" (ص 314).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وتأمل كيف قال في آية الذكر: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ ) الآية. وفي آية الدعاء: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل، والتمسكن، والانكسار وهو روح الذكر والدعاء " انتهى. "مجموع الفتاوى" (15 / 19).
فالدعاء والذكر يكون محمودا كلما تحقق فيه هذا التعظيم، وكلمّا غاب شيء من هذا التعظيم يكون ذكرا منقوصا إلى حدّ أنه قد ينقلب إلى ذكر مذموم؛ ولهذا يكون الذكر والدعاء أثناء المعصية له أحوال بحسب تحقيقه لتعظيم الله تعالى من عدمه، وبحسب نيّة صاحبه؛ لأن "الأمور بمقاصدها"؛ لحديث رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) رواه البخاري (1)، ومسلم (1907).
الحالة الأولى:
أن يذكر الله تعالى أثناء المعصية بسبب تدافع وازع الإيمان ودافع المعصية في قلبه؛ فيصدر منه الدعاء أو الاستغفار بسبب ما في قلبه من تعظيم الله تعالى والخوف منه وكره ما هو عليه من المعصية؛ فهذا مذنب بسبب معصيته، مطيع باستغفاره ودعائه ، فهو ممن خلطوا عملا صالحا ، وآخر سيئا .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، نقلا عن ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى:
" إن كان في حال المعصية يذكر الله بخوف ووجل مما هو فيه فإنه يرجى له " انتهى من "فتح الباري" (13 / 386).
الحالة الثانية:
أن يصدر الذكر والدعاء على وجه لا يقصد به حقيقتهما ولا يكون في ذلك استخفاف باسم الله تعالى ، ولا ما يشبه الاستخفاف، وهذا كالأمثلة الواردة في السؤال ؛ مما يجري على ألسنة الناس من أنواع الأدعية والأذكار يسبق إليها اللسان بقصد تأكيد فعل أو نفيه أو إنكاره ، كالحلف بالله ، أو قول : إن شاء الله أو رد السلام .. ونحو ذلك .
فمن صدر منه شيء من هذا أثناء المعصية فإنه لا حرج عليه ولا إثم ، ولا يكون غير معظم لله تعالى بهذا الذكر، وإنما نقص تعظيمه لله تعالى بسبب معصيته.
الحالة الثالثة:
أن يذكر الله تعالى مستعينا به على فعل المعصية ، ومتبركا بذكر اسمه ليحصل له مقصوده المحرم ، كمن يبدأ المعصية بالتسمية أو بدعاء الله أن ييسر له ما يريده من الحرام .. وما أشبه ذلك .
فهذا الذكر والدعاء محرم ، لأنه من الاعتداء في الدعاء ، والله تعالى يستعان به على طاعته لا على معصيته .
وينظر للأهمية جواب السؤال رقم : (113853) .
وقد ذكر العلماء أن من صور الاعتداء في الدعاء : أن يسأل العبد ربه ما هو ممنوع شرعا .
ينظر جواب السؤال رقم : (41017) .
الحالة الرابعة:
أن يصدر الذكر والدعاء من العاصي على سبيل الاستهزاء، أو الامتهان في الظاهر؛ فهذا الفعل كفر، ويدل على النفاق الأكبر إن كان صاحبه يدعي الإسلام ؛ قال الله تعالى واصفا المنافقين:
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ، لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ التوبة/64 – 66.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى:
" لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة " انتهى من"أحكام القرآن" (2 / 976).
ثانيا :
الغناء والموسيقى حرام ، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من القرآن الكريم ، والسنة النبوية، وأقوال الصحابة ، وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على ذلك .
وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم : (5000) .
فالقول بإباحة الموسيقى والغناء قول مردود ضعيف ، بل باطل ، فلا يمكن التفريع والبناء عليه ، فلا يقال : على القول بحل الموسيقى ما حكم ذكر الله في الأغاني ؟
بل يقال : الموسيقى والأغاني حرام ، ويزداد تحريمها إذا كان في كلماتها شيء من ذكر الله تعالى ، لأن ذلك منافٍ لتعظيم الله تعالى ، ولأن ذكر الله تعالى في هذه الحالة صار جزءا من المعصية التي هي الغناء .
والله سبحانه وتعالى إنما أمر بذكره ليكون الذاكر مطيعا لله تعالى ، مصلحا لقلبه ، مثابا من الله تعالى ، والمغني إذا ذكر الله تعالى ، فإنه ليس مطيعا لله ، ولا مثابا على هذا الذكر ، ولا مصلحا لقلبه ، بل الغناء مفسد للقلب.
روى ابن أبي حاتم في "التفسير" (1 / 260) بإسناده " عن مَكْحُول الأَزْدِيِّ قَالَ: " قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ أَرَأَيْتَ قَاتِلَ النَّفْسِ وَشَارِبَ الْخَمْرِ وَالسَّارِقَ وَالزَّانِيَ، يَذْكُرُ اللَّهَ ؟ وَقَدْ قال الله تَعَالَى: ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) .
قَالَ: ( إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ هُوَ، ذَكَرَهُ اللَّهُ بِلَعْنَتِهِ حَتَّى يَسْكُتَ )، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوُ ذَلِكَ." انتهى.
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى: "إسناده صحيح ...
وهذا الذي قاله ابن عمر حق، ينطبق تماماً على ما يصنع أهل الفسق والمجون في عصرنا، من ذكر الله سبحانه وتعالى في مواطن فسقهم وفجورهم، وفي الأغاني الداعرة، والتمثيل الفاجر الذي يزعمونه تربية وتعليماً، وفي قصصهم المفترى، الذي يجعلونه أنه هو الأدب وحده أو يكادون، وفي تلاعبهم بالدين، بما يسمونه "القصائد الدينية" و"الابتهالات" التي يتلاعب بها الجاهلون من القراء، ويتغنون بها في مواطن الخشوع وأوقات التخلي للعبادة، حتى لَبَّسوا على عامة الناس شعائر الإسلام، فكل أولئك يذكرون الله فيذكرهم الله بلعنته حتى يسكتوا " انتهى من "عمدة التفسير" (1 / 198).
والله أعلم.
تعليق