الحمد لله.
أولًا :
هذه العادة موجودة في بعض البلاد ، وبعض الناس يفعل ذلك تفاؤلا برجوع المسافر ، والتفاؤل بهذه الطريقة لا أصل له في الإسلام ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسافر ، ولم يكن أصحابه أو أهله يودعونه بذلك ، كما كان أصحابه يسافرون ، ولم يكن يودعهم صلى الله عليه وسلم بذلك .
فأقل ما يقال في هذه العادة : إنها بدعة مذمومة ، ينبغي تركها .
وقد جاءت السنة بتوديع المسافر بالدعاء له ؛ فمن فعل ذلك فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ أخذ طقسا، عاميا، فارغا؛ لا معنى، له ولا قيمة، ولا يقدم ولا يؤخر، ولا هو سبب شرعي، ولا حسي، ولا عقلي، في جلب خير، أو دفع ضر؛ وترك الدعاء المبارك، الذي هو من أنفع الأسباب، وأعظمها في حصول المطلوب؟!
روى الترمذي (3443) عَنْ سَالِمٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا : ادْنُ مِنِّي ، أُوَدِّعْكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَدِّعُنَا ، فَيَقُولُ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
وروى الترمذي (3444) عَنْ أَنَسٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي ، قَالَ: زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى قَالَ : زِدْنِي . قَالَ : وَغَفَرَ ذَنْبَكَ قَالَ : زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي . قَالَ: وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
فهذا هو المشروع عند توديع المسافر .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول كل جمعة وهو على المنبر (خَيْرُ الْهُدَي هُدَي مُحَمَّدٍ) رواه مسلم (867) .
ثانيا :
إذا كان بعض الناس يفعل ذلك اعتقادا منه أن هذا سبب في حفظ المسافر ورجوعه سالما ، فقد ارتكب أمرا محرما، لأن إثبات التأثير السببي، لأمر من الأمور، إنما يعلمه الناس بأحد طريقين:
الأول : الشرع . بأن يرد في الكتاب والسنة ما يدل على أن هذا سبب ، كالعسل ، قال الله تعالى فيه : (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) النحل/69.
الثاني : التجربة . بأن يجربه الناس فيجدوه نافعا .
وعامة الطب قديما وحديثا قائم على التجربة ، ولكن يشترط فيما يثبت نفعه بالتجربة أن يكون تأثيره ظاهرا بأمر حسي ، وذلك حتى لا يأتي أحد من أصحاب الغلو في الأموات والقبور ، ويقول : جربت الدعاء عند قبر فلان أو التوسل به إلى الله فوجدته نافعا !!
وإثبات أن هذا الفعل سبب لسلامة المسافر شبيهه بفعل أهل الجاهلية ، حيث كانوا يعلقون تمائم أو يلبسون أشياء يزعمون أنها تدفع عنهم الشر ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم تحريم ذلك أشد التحريم ، وأنه صورة من صور الشرك .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في كتابه "القول السديد" (ص 43) تعليقا على الأحاديث التي أوردها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب "التوحيد" في باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو تدفعه. قال :
"وهذا الباب يتوقف فهمه على معرفة أحكام الأسباب .
وتفصيلُ القول فيها : أنه يجب على العبد أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور :
أحدها : أن لا يجعل منها سببا إلا ما ثبت أنه سبب شرعا أو قدرا .
ثانيها : أن لا يعتمد العبد عليها ، بل يعتمد على مسببها ومقدرها ، مع قيامه بالمشروع منها ، وحرصه على النافع منها .
ثالثها : أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره لا خروج لها عنه ، والله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء : إن شاء أبقى سببيتها جارية على مقتضى حكمته ليقوم بها العباد، ويعرفوا بذلك تمام حكمته حيث ربط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها ، وإن شاء غيرها كيف يشاء، لئلا يعتمد عليها العباد وليعلموا كمال قدرته ، وأن التصرف المطلق والإرادة المطلقة لله وحده ، فهذا هو الواجب على العبد في نظره وعمله بجميع الأسباب .
إذا علم ذلك؛ فمن لبس الحلقة أو الخيط أو نحوهما قاصدا بذلك رفع البلاء بعد نزوله ، أو دفعه قبل نزوله: فقد أشرك ، لأنه إن اعتقد أنها هي الدافعة الرافعة: فهذا الشرك الأكبر؛ وهو شرك في الربوبية حيث اعتقد شريكا مع الله في الخلق والتدبير.
وشرك في العبودية؛ حيث تأله لذلك وعلق به قلبه طمعا ورجاء لنفعه.
وإن اعتقد أن الله هو النافع الرافع وحده، ولكن اعتقدها سببا يستدفع بها البلاء: فقد جعل ما ليس سببا شرعيا ولا قدريا سببا ، وهذا محرم وكذب على الشرع وعلى القدر .
أما الشرع فإنه ينهى عن ذلك أشد النهي، وما نهى عنه فليس من الأسباب النافعة .
وأما القدر فليس هذا من الأسباب المعهودة ولا غير المعهودة التي يحصل بها المقصود ، ولا من الأدوية المباحة النافعة .
وكذلك هو من جملة وسائل الشرك فإنه لا بد أن يتعلق قلب متعلقها بها ، وذلك نوع شرك ووسيلة إليه .
فإذا كانت هذه الأمور ليست من الأسباب الشرعية التي شرعها على لسان نبيه، التي يتوسل بها إلى رضاء الله وثوابه ، ولا من الأسباب القدرية التي قد علم أو جرب نفعها، مثل الأدوية المباحة: كان المتعلق بها، متعلقا قلبه بها، راجيا لنفعها ، فيتعين على المؤمن تركها ليتم إيمانه وتوحيده، فإنه لو تم توحيده لم يتعلق قلبه بما ينافيه، وذلك أيضا نقص في العقل حيث تعلق بغير متعلَّق ولا نافع بوجه من الوجوه، بل هو ضرر محض .
والشرع مبناه على تكميل أديان الخلق بنبذ الوثنيات والتعلق بالمخلوقين ، وعلى تكميل عقولهم بنبذ الخرافات والخزعبلات ، والجد في الأمور النافعة المرقية للعقول ، المزكية للنفوس ، المصلحة للأحوال كلها دينيها ودنيويها . والله أعلم" انتهى .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في "القول المفيد" (1/116) في شرح الباب نفسه :
"باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه ....
قوله: "من الشرك"، من هنا للتعبيض، أي: أن هذا بعض الشرك، وليس كل الشرك، والشرك: اسم جنس يشمل الأصغر والأكبر.
ولبس هذه الأشياء قد يكون أصغر وقد يكون أكبر بحسب اعتقاد لابسها، وكان لبس هذه الأشياء من الشرك، لأن كل من أثبت سبباً لم يجعله الله سبباً شرعياً ولا قدرياً، فقد جعل نفسه شريكاً مع الله.
فمثلاً: قراءة الفاتحة سبب شرعي للشفاء.
وأكل المسهل سبب حسي لانطلاق البطن، وهو قدري، لأنه يعلم بالتجارب.
والناس في الأسباب طرفان ووسط:
الأول: من ينكر الأسباب، وهم كل من قال بنفي حكمة الله، كالجبرية، والأشعرية.
الثاني: من يغلو في إثبات الأسباب حتى يجعلوا ما ليس بسبب سبباً، وهؤلاء هم عامة الخرافيين من الصوفية ونحوهم.
الثالثة: من يؤمن بالأسباب وتأثيراتها، ولكنهم لا يثبتون من الأسباب إلا ما أثبته الله سبحانه ورسوله، سواء كان سبباً شرعياً أو كونياً.
ولا شك أن هؤلاء هم الذين آمنوا بالله إيماناً حقيقياً، وآمنوا بحكمته، حيث ربطوا الأسباب بمسبباتها، والعلل بمعلولاتها، وهذا من تمام الحكمة.
ولبس الحلقة ونحوها: إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله، فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية، لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره.
وإن اعتقد أنها سبب، ولكنه ليس مؤثراً بنفسه، فهو مشرك شركاً أصغر لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسب سبباً فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سبباً" انتهى .
وينظر السؤال رقم: (277434)، (113333)، (192206).
والله أعلم.
تعليق