الحمد لله.
أولًا:
الشوق إلى الله تعالى ينبع من المحبة، فإن " محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح من الجدّ في طاعته والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه والأنس بذكره، والاستيحاش من غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل من يحبه الله وإيثاره على كل من سواه " انتهى من "التسهيل" لابن جزي (1/ 106).
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه : اللهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي اللهُمَّ أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ، يَعْنِي فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحُكْمِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَبِيدُ وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرَدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءٍ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ رواه النسائي في "السنن الكبرى" (1229) .
يقول ابن القيم : " الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمعرفته، والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئًا هو أحب إليهم ولا أقرُّ لعيونهم ولا أنعم لقلوبهم من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يُعطِهم في الدنيا شيئًا خيرًا لهم، ولا أحبَّ إليهم، ولا أقرَّ لعيونهم من الإيمان به، ومحبته، والشوقِ إلى لقائه، والأُنْسِ بقربه، والتنعُّم بذِكْره.
وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين هذين الأمرين في الدعاء الذي رواه النسائي، والإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم من حديث عمار بن ياسر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو به: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحْيِني. ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفَد، وأسألك قُرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك، في غير ضَرّاءَ مُضِرّة، ولا فتنة مُضلة، اللهم زَيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين".
فجمع في هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شيء في الدنيا وهو الشوق إلى لقائه سبحانه، وأطيب شيء في الآخرة وهو النظر إلى وجهه سبحانه، ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفًا على عدم ما يضر في الدنيا، ويفتن في الدين، قال: "في غير ضرّاء مُضرة، ولا فتنة مُضلة".
ولما كان كمال العبد في أن يكون عالمًا بالحق، متَّبعًا له، معلِّمًا لغيره، مرشدًا له، قال: "اجعلنا هُداة مهتدين" انتهى من "إغاثة اللهفان "(1/ 41).
والشوق إلى الله تعالى هو مما يحصل للعبد في الدنيا ، فإن من أقبل على الله وعبادته ، وحصل سبل الحياة الطيبة ، والشوق من مراتب المحبة ، فالمحبة على درجات منها : الشوق .
قال ابن القيم : " ثم الشوق، وهو سفر القلب إلى المحبوب أحث السفر، وقال بعض أهل البصائر في قوله تعالى: من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت [العنكبوت: 5]: لما علم الله سبحانه شدة شوق أوليائه إلى لقائه، وأن قلوبهم لا تهدأ دون لقائه، ضرب لهم أجلا وموعدا للقاء تسكن نفوسهم به.
وأطيب العيش وألذه على الإطلاق عيش المحبين المشتاقين المستأنسين، فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة، ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها. وهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [النحل: 97]. ليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، من طيب المأكل والملبس والمشرب والمنكح؛ بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافا مضاعفة.
وقد ضمن الله سبحانه لكل من عمل صالحا أن يحييه حياة طيبة، فهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده. وأي حياة أطيب من حياة من اجتمعت همومه كلها، وصارت هما واحدا في مرضاة الله، ولم شعث قلبه بالإقبال على الله، واجتمعت إراداته وأفكاره التي كانت منقسمة -بكل واد منها شعبة- على الله. فصار ذكر محبوبه الأعلى، وحبه، والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه = هو المستولي عليه. وعليه تدور همومه وإراداته وقصوده، بل خطرات قلبه. فإن سكت سكت بالله، وإن نطق نطق بالله. وإن سمع فبه يسمع، وإن أبصر فبه يبصر. وبه يبطش، وبه يمشي، وبه يتحرك، وبه يسكن. وبه يحيا، وبه يموت، وبه يبعث كما في صحيح البخاري عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال:
"ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي.
ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه".
فتضمن هذا الحديث الشريف الإلهي -الذي حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه والمراد به- حصر أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل.
وأخبر سبحانه أن أداء فرائضه أحب ما تقرب به إليه المتقربون، ثم بعدها النوافل؛ وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله. فإذا صار محبوبا لله أوجبت محبة الله له محبة أخرى منه لله، فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام
بغير محبوبه، وملكت عليه روحه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة.
فصار ذكر محبوبه وحبه ومثله الأعلى مالكا لزمام قلبه، مستوليا على روحه، استيلاء المحبوب على محبه الصادق في محبته التي قد اجتمعت قوى حبه كلها له "، انتهى من "الداء والدواء": (427 - 438) بتصرف يسير، ويرجى مراجعته، فإنه نفيس جدًا في شرح معنى الشوق، وأسبابه.
وانظر: "مدارج السالكين" (1/ 429).
قال ابن رجب رحمه الله:
" وأما الشوق إِلَى لقاء اللَّه في الدُّنْيَا فهو أعظم لذّة تحصل للعارفين في الدُّنْيَا، فمن أنس باللَّه في الدُّنْيَا واشتاق إِلَى لقائه، فقد فاز بأعظم لذّة يمكن لبشر الوصول إليها في هذه الدار.
كان أبو الدرداء يقول: أَحَبّ الموت اشتياقًا إِلَى ربي عز وجل.
قال أبو عتبة الخولاني: كان إخوانكم، لقاء اللَّه أَحَبّ إليهم من الشهادة.
كان بعضهم يقول: إذا ذكرت القدوم عَلَى اللَّه كنت أشدّ اشتياقًا إِلَى الموت من الظمآن الشديد ظمؤه، في اليوم الحار الشديد حره إِلَى الماء البارد الشديد.
كانت رابعة تقول: قد طالت عليَّ الأيام والليالي بالشوق إِلَى لقاء اللَّه عز وجل.
وبقي فتح بن شخرف ثلاثين سنة لم يرفع رأسه إِلَى السماء، وقال: طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك.
وقال بعضهم: اخدموه شوقًا إِلَى لقائه، فإن له يومًا يتجلى فيه لأوليائه..." . انتهى من "رسائل ابن رجب (1/181).
ثانيًا:
لا تلازم بين الشوق إلى الله ، ومحبة لقائه سبحانه ؛ وحب الموت ، أو عدم الخوف منه ، أو حتى عدم كراهته، بل قد يمتلئ القلب بالشوق إلى رب العالمين، ومحبة لقائه، وهو في سيره في هذه الدنيا، يأمُل العيش، ويكره الموت، كما تكرهه النفوس، ولا تعارض بين الأمرين؛ حتى إذا دنا أجله، وسيق إلى حِمامه، نزلت عليه الملائكة تبشره بالقدوم على رب العالمين، وتفسح له في رحمة أرحم الراحمين، فسره ذلك، واستبشر، وانشرح له صدره، وزاد اشتياقه إلى لقاء رب العالمين.
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: (لَيْسَ ذَاكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ رواه البخاري (6507) ، ومسلم (2683).
قال الإمام أبو عبيد رحمه الله، في معنى هذا الحديث: " ليس وجهه عندي أن يكون الإنسان يكره الموت وشدته، فإن هذا لا يكاد يخلو منه أحد نبي ولا غيره، ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها وكراهية أن يصير إلى الله تعالى والدار الآخرة ويريد المقام في الدنيا." انتهى من "الاستذكار" لابن عبد البر (8/362).
وقال ابن عبد البر رحمه الله: " الذي أقول في معنى هذا الحديث ما شهدت به الآثار المرفوعة وهي الملجأ والحجة لمن لجأ إليها وذلك والله أعلم عند معاينة الإنسان ما يعانيه عند حضور أجله، فإذا رأى ما يكره لم يحب الخروج من الدنيا ولا لقاء ما عاين مما يصير إليه وأحب لو بقي في الدنيا ليتوب ويعمل صالحا وإن رأى ما يحب أحب لقاء الله والإسراع إلى رحمته لحسن ما يعاين من ذلك." انتهى من "الاستذكار" (8/362).
وهذه البشرى، قد جاء ذكرها في قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ فصلت/30-32 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
" يخبر تعالى عن أوليائه، وفي ضمن ذلك، تنشيطهم، والحث على الاقتداء بهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا أي: اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية الله تعالى، واستسلموا لأمره، ثم استقاموا على الصراط المستقيم، علمًا وعملا فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ الكرام، أي: يتكرر نزولهم عليهم، مبشرين لهم عند الاحتضار. أَلا تَخَافُوا على ما يستقبل من أمركم، وَلا تَحْزَنُوا على ما مضى، فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فإنها قد وجبت لكم وثبتت، وكان وعد الله مفعولا ويقولون لهم أيضا - مثبتين لهم، ومبشرين: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ يحثونهم في الدنيا على الخير، ويزينونه لهم، ويرهبونهم عن الشر، ويقبحونه في قلوبهم، ويدعون الله لهم، ويثبتونهم عند المصائب والمخاوف، وخصوصًا عند الموت وشدته، والقبر وظلمته، وفي القيامة وأهوالها، وعلى الصراط، وفي الجنة يهنئونهم بكرامة ربهم، ويدخلون [ص:749] عليهم من كل باب سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ويقولون لهم أيضا: وَلَكُمْ فِيهَا أي: في الجنة مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ قد أعد وهيئ. وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ أي: تطلبون من كل ما تتعلق به إرادتكم وتطلبونه من أنواع اللذات والمشتهيات، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ أي: هذا الثواب الجزيل، والنعيم المقيم، نزلٌ وضيافة مِنْ غَفُورٍ غفر لكم السيئات، رَحِيمٍ حيث وفقكم لفعل الحسنات، ثم قبلها منكم. فبمغفرته أزال عنكم المحذور، وبرحمته، أنالكم المطلوب." انتهى من "تفسير السعدي" (748).
ثالثا:
أهل السنة والجماعة يثبتون رؤية الله تعالى في الآخرة ، ولا يمكن لأحد أن يرى الله تعالى في الدنيا ، بل يرى سبحانه وبحمده في الآخرة ، جعلنا الله من المنعمين بالنظر إلى وجهه الكريم .
قال ابن القيم : " أعظمُ نعيم الآخرة ولذّاتها: النظرُ إلى وجه الربّ جلّ جلاله، وسماعُ كلامه منه، والقربُ منه؛ كما ثبت في الصحيح في حديث الرؤية: "فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه".
وفي حديث آخر: "إنّه إذا تجلّى لهم ورأوه نسُوا ما هم فيه من النعيم".
وفي النسائي ومسند الإِمام أحمد من حديث عمّار بن ياسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: "وأسألك لذّةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك" .
وفي كتاب السنّة لعبد الله ابن الإِمام أحمد مرفوعًا: "كأنّ الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن. إذا سمعوه من الرحمن، فكأنّهم لم يسمعوه قبل ذلك".
وإذا عُرِف هذا، فأعظمُ الأسباب التي تُحصِّل هذه اللذّةَ هو أعظمُ لذّات الدنيا على الإطلاق، وهو لذّةُ معرفته سبحانه ولذّةُ محبته، فإن ذلك هو جنّة الدنيا ونعيمها العالي؛ ونسبةُ لذّاتها الفانية إليه كتَفْلةٍ في بحرِ، فإنّ الروح والقلب والبدن إنّما خلق لذلك. فأطيبُ ما في الدنيا معرفتُه ومحبّتُه، وأنشد ما في الجنّة رؤيتُه ومشاهدتُه. فمحبّتُه ومعرفتُه قرّة العيون، ولذة الأرواح، وبهجة القلوب، ونعيم الدنيا وسرورها. بل لذّاتُ الدنيا القاطعةُ عن ذلك تنقلب آلامًا وعذابًا، ويبقى صاحبها في المعيشة الضَّنْك، فليست الحياة الطيبة إلا بالله " انتهى من " الداء والدواء " (542).
وانظر الأجوبة رقم : (14525)، (260884)، (210252).
ثالثًا :
حاصل مسألة الرؤية :
- إثبات أن المؤمنين سيرون الله تعالى في موقف الحساب ، وفي الجنة ، وأن هذه الرؤية الحاصلة لهم في الجنة : هي أعظم نعيمهم .
- أن أحدا لن يرى الله تعالى في الدنيا ، ولم يختلف العلماء في حصول ذلك لأحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أن الصحيح في ذلك أنه لم ير ربه .
- أن الكفار والمنافقين – إن قيل بأنهم سيرون الله في موقف الحساب – فإن هذه الرؤية ليست رؤية نعيم ، وإنما هي رؤية حساب وامتحان .
- أنه ليس لأحد أن يطلق القول بأن الكفار سيرون ربهم من غير تقييد ، لأن الرؤية المطلقة قد صار يفهم منها الكرامة والثواب ، وليس لأحد أن يطلق لفظا يوهم خلاف الحق ، إلا أن يكون مأثورا عن السلف في الباب ، وإطلاق القول برؤية الكفار أو المنافقين : ليس مما أثر عن السلف في هذا الباب .
انظر الجواب رقم : (256455).
فتبين بذلك : أن المؤمن لن يرى ربه بمجرد خروج روحه، ولم يأت بذلك نص ولا أثر، بل لم يذكر أيضا أن عالم البرزخ والقبور: هو محل لرؤية الله الكريم ؛ وإنما الرؤيا الموعودة تكون بعد قيام الناس من قبورهم لرب العالمين.
والله أعلم.
تعليق