الحمد لله.
أولا:
رؤية الله تعالى في الآخرة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) القيامة/22-25 .
فالناضرة وجوه المؤمنين , والباسرة وجوه الكافرين.
وقال تعالى عن الكافرين : ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) المطففين/15 .
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ ْ ) رواه البخاري (521) ومسلم (1002) .
وروى مسلم (181) عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ ).
ومن الإجماع:
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: "أهل قبلتنا من الصحابة والتابعات والتابعين ومن بعدهم ، إلى من شاهدنا من العلماء من أهل عصرنا : لم يختلفوا ولم يشكوا ولم يرتابوا : أن جميع المؤمنين يرون خالقهم يوم القيامة عيانا" انتهى من كتاب التوحيد (2/ 548).
وقال في (2/ 585): " وقد أعلمت قبل أن العلماء لم يختلفوا أن جميع المؤمنين يرون خالقهم في الآخرة لا في الدنيا، ومن أنكر رؤية المؤمنين خالقهم يوم المعاد، فليسوا بمؤمنين، عند المؤمنين، بل هم أسوأ حالا في الدنيا عند العلماء من اليهود، والنصارى، والمجوس، كما قال ابن المبارك: نحن نحكي كلام اليهود، والنصارى، ولا نقدر أن نحكي كلام الجهمية" انتهى.
وقال أبو الحسن الأشعري في الإبانة، ص51: "وقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل تراه العيون في الآخرة، وما روي عن أحد منهم أن الله تعالى لا تراه العيون في الآخرة، فلما كانوا على هذا مجتمعين، وبه قائلين، ... ثبتت في الآخرة إجماعا" انتهى.
وما ثبت بالكتاب ، أو بالسنة ، أو بالإجماع : فالواجب الإيمان به، وعدم الالتفات إلى من أنكره، فكيف بما ثبت بهذه الثلاثة معا ؟!
ثانيا:
اعتمد نفاة الرؤية على شبهات سقيمة ، منها ما ذكرت من قولهم:
إن إثبات الرؤية يلزم منه التشبيه والتجسيم والتبعيض ؟
وهذا قول باطل ، لا حقيقة له، فإن أهل السنة يعتقدون أن الله تعالى لا يشبه شيئا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، وليس مركبا من أجزاء متفرقة، تعالى الله عن ذلك، وليس جسما بمعناه اللغوي ، ولا الكلامي ، ولا الفلسفي، فليس جسدا، ولا مركبا من جوهرين فأكثر، ولا من الهيولي والصورة .
ولكنه سبحانه ذات مقدسة، ليست كسائر الذوات ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، وهو العلي الأعلى، يراه المؤمنون بأبصارهم، كما أخبر هو سبحانه، وكما أخبر نبيه الذي لا ينطق عن الهوى، ومعاذ الله أن ينسب إلى نفسه كفرا أو تشبيها، أو ينسبه له رسوله والمؤمنون شيئا من ذلك.
وإذا كانت الرؤية تستلزم الجهة والمقابلة، فلا حرج في ذلك ؛ فإن لازم الحق حق، والله عز وجل موصوف بالعلو والفوقية، ولا يستلزم ذلك تجسيما ولا تشبيها. وليس مع نافي العلو دليل صحيح يعول عليه.
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرح الطحاوية (1/ 219): " وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيها لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه. وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟
ومن قال: يرى لا في جهة، فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابرا لعقله ، أو في عقله شيء ؛ وإلا فإذا قال : يُرى ، لا أمام الرائي ولا خلفه ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ، ولا فوقه ولا تحته ؛ رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.
ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات ، بنفي الرؤية، وقالوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة...
وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام ، إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه.
لكن قول من أثبت موجودا يرى لا في جهة، أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه ، لا يرى ، ولا في جهة.
ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة: أتريد بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميا؟
فإن أراد بها أمرا وجوديا ، كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود ، لا يرى .
وهذه المقدمة : ممنوعة، ولا دليل على إثباتها ؛ بل هي باطلة، فإن سطح العالم يمكن أن يُرى، وليس العالم في عالم آخر.
وإن أردت بالجهة أمرا عدميا، فالمقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار" انتهى.
وأصل القضية هي الإيمان بالكتاب والسنة أولا، واعتقاد أن الحق فيهما، واعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، وأن الله حفظ بلاغه كما حفظ كتابه، وقد شرح لنا الزيادة، وفسرها بالنظر إلى وجه الله، وتواترت السنة بإثبات الرؤية، فكان هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وما عدا ذلك فهي وساوس الشيطان.
ولو كانت الرؤية منفية، للزمه صلى الله عليه وسلم أن ينفيها عن ربه، وأن يزيل الظاهر الذي دل عليه القرآن من إثباتها في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) فلما لم يكن شيء من ذلك، بل كان منه صلى الله عليه وسلم تأكيده وتقريره، علمنا أن هذا هو الحق الذي يجب اعتقاده.
ومن أنكر الرؤية فليناقَش أولا في إثبات السنة؛ إذ لا معنى في نقاشه مع إنكاره لأصل الاستدلال العظيم.
وأحاديث الرؤية متواترة، كما قال ابن القيم رحمه الله في "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" ص296: " وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدالة على الرؤية : فمتواترة ، رواها عنه أبو بكر الصديق وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وجرير بن عبد الله البجلي وصهيب بن سنان الرومي وعبد الله بن مسعود الهذلي وعلي ابن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وعدي بن حاتم الطائي وأنس بن مالك الأنصاري وبريدة بن الحصيب الأسلمي وأبو رزين العقيلي وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبو أمامة الباهلي وزيد بن ثابت وعمار بن ياسر وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عمر وعمارة بن رويبة وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وحديثه موقوف، وأبي بن كعب وكعب بن عجرة وفضالة بن عبيد وحديثه موقوف، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير مسمى.
فهاك سياق أحاديثهم من الصحاح والمسانيد والسنن، تلقها بالقبول والتسليم وانشراح الصدر، لا بالتحريف والتبديل وضيق العطن، ولا تكذب بها، فمن كذب بها ، لم يكن إلى وجه ربه من الناظرين، وكان عنه يوم القيامة من المحجوبين ... " . ثم ساق الأحاديث.
فمن لم يسلم للسنة ، وما جاءت به ؛ فما جدوى النقاش معه في مسألة من مسائل الدين؟
ومن لم يبصر إثبات السنة للرؤية، فهو أعمى، لا يجدي معه نقاش ولا استدلال.
والنصيحة لك : أن لا تنشغل برد الشبهات، بل احرص على طلب العلم وتحصيله والترقي فيه على أيدي العلماء الثقات.
نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.
والله أعلم.
تعليق