الحمد لله.
أولًا :
قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ الأعلى/5 - 6 .
ومعنى الآية أن الله سيُقرئ النبيَّ صلى الله عليه وسلم القرآن، فلا ينساه، إلا ما شاء الله .
والاستثناء هنا معناه : إلا ما شاء الله أن يُنسخ ، فما شاء الله أن ينسخ ، ويرفع : ينساه النبي صلى الله عليه وسلم .
انظر: " تفسير الطبري " (24/ 316) .
فالحاصل أن هذا وعد من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجعله قارئا للقرآن حافظا له ، فلا يقع منه نسيان له ، إلا ما نسخ الله تلاوته .
انظر : "تفسير جزء عم " مساعد الطيار (122).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم : (228722) ، ورقم : (184148) ، ورقم : (174796) .
ثانيًا :
هل النسخ ينافي حفظ القرآن ؟
لا بد من العلم أن " الله تعالى قد حفظ القرآن من أن يرد عليه تبديل أو تغيير حتّى من جهة نبيه صلى الله عليه وسلم، أمّا هو سبحانه فإنّه يفعل ما يشاء، كما قال: ( قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ) [يونس: 15] " ، انتهى من " المقدمات الأساسية في علوم القرآن "(275).
أما الفوائد المتعلقة بنسخ بعض الآيات ، فإنها كثيرة ، وترجع إلى حكمة الله تعالى في التشريع ، ومنها :
1- التدرج في الأحكام على الأمة حتى لا تنفر ويسهل عليها تقبله، كما حصل في الخمر .
2- استخدام هذا الأسلوب في الدعوة، فالداعي يبدأ مع المدعو بالتدرج ، وتعليقه بالدار الآخرة ، وزرع الإيمان في قلبه، ثم يخبره بأحكام الإسلام شيئا فشيئا.
3- بيان رحمة الله بهذه الأمة؛ فهو سبحانه يراعي أحوال الناس ، وعاداتهم ، ويتدرج معهم ، رحمة بهم ، حتى لا ينفروا من الإسلام، بل يحببهم به حتى يكونوا من أهله.
4- فيه دلالة على بعض صفات الله ، كالعلم ؛ فهو سبحانه عالم بأحوال الناس جملة وتفصيلا، وعالم بما يصلحهم وينفعهم ، والطريقة التي تصلح لهم، وفيه دلالة على صفة الحكمة والرحمة .
5- من الحكم التذكير بنعمة الله ، لاسيما في بعض أنواع النسخ التي يكون فيها النسخ تخفيفا ، من أثقل إلى أسهل ، كما هو الحال في عدة المتوفاة عنها زوجها وغير ذلك.
6- ابتلاء المكلف واختباره بالامتثال وعدمه.
7- إرادة الخير بهذه الأمة، فإن النسخ إن كان إلى ما هو أخف ففيه سهولة ويسر، وإن كان إلى ما هو أثقل ففيه زيادة الثواب والأجر.
لهذا كان النسخ من محاسن القرآن لا من مطاعنه.
انظر : " دعاوى الطاعنين " محسن المطيري(268 - 270).
ثالثا:
وأما أن الله عالم بالمستقبل ، وعالم بالغيب كله ، وتوهم أن هذا ينافي النسخ ؛ فقد كان هذا شبهة اليهود ، ومن تبع مقالتهم في نفي النسخ ، لما يلزم عنه من (البَداء) ، أي أن الله جل جلاله ، لم يكن (عالما) بالشي، ثم علمه، فنسخ الحكم السابق لأجل ذلك ؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
يقول العلامة الشنقيطي، رحمه الله، في " أضواء البيان " (2/ 446) : " وَمَا زَعَمَهُ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ : مِنْ أَنَّ النَّسْخَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبُدَاءُ ، وَهُوَ الرَّأْيُ الْمُتَجَدِّدُ : ظَاهِرُ السُّقُوطِ ، وَاضِحُ الْبُطْلَانِ لِكُلِّ عَاقِلٍ ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَلْزَمُهُ الْبُدَاءُ الْبَتَّةَ ، بَلِ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يُشَرِّعُ الْحُكْمَ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ سَتَنْقَضِي فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ ، وَأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْسَخُ ذَلِكَ الْحُكْمَ وَيُبَدِّلُهُ بِالْحُكْمِ الْجَدِيدِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ ; فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ ، أَنْجَزَ - جَلَّ وَعَلَا - مَا كَانَ فِي عِلْمِهِ السَّابِقِ مِنْ نَسْخِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ، الَّذِي زَالَتْ مَصْلَحَتُهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْجَدِيدِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ .
كَمَا أَنَّ حُدُوثَ الْمَرَضِ بَعْدَ الصِّحَّةِ ، وَعَكْسَهُ ، وَحُدُوثَ الْغِنَى بَعْدَ الْفَقْرِ ، وَعَكْسَهُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ : لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْبُدَاءُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأَنَّ حِكْمَتَهُ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ التَّغْيِيرَ ، فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ ، عَلَى وَفْقِ مَا سَبَقَ فِي الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ .
وَقَدْ أَشَارَ - جَلَّ وَعَلَا - إِلَى عِلْمِهِ بِزَوَالِ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْمَنْسُوخِ، وَتَمَحُّضِهَا فِي النَّاسِخِ، بِقَوْلِهِ : ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ) ، وَقَوْلِهِ: ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، وَقَوْلِهِ: ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ) ، فَقَوْلُهُ: ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ) ، بَعْدَ قَوْلِهِ: ( إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ) ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ.
فَهُوَ عَالِمٌ بِمَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ، وَمَصْلَحَةِ تَبْدِيلِ الْجَدِيدِ مِنَ الْأَوَّلِ الْمَنْسِيِّ " انتهى .
وينظر أيضا للفائدة: جواب السؤال رقم : (268766) .
تعليق