الحمد لله.
أولا:
ما هي كفارة اليمين؟
كفارة اليمين بينها الله تعالى بقوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة / 89.
ثانيا:
مقدار الطعام الذي يجزئ في كفارة اليمين؟
يجزئ في الإطعام مُدٌّ من أرز ونحوه، عند الجمهور، ومقداره 750 جراما تقريبا، وفرق الحنابلة بين البر وغيره، فيجزئ في البر مدّ، وأما غير البر فلابد من نصف صاع، وهو كيلو ونصف تقريبا.
واشترط الشافعية والحنابلة تمليك الفقير، فلا بد أن يعطى طعاما، ولا يجزئ أن يدعوه لغداء أو عشاء، لأن الدعوة للطعام إباحة وليست تمليكا.
لكن من طبخ طعاما، أو اشترى وجبات جاهزة، وأعطى كل مسكين وجبة، فقد ملّك الفقير، كأن يعطي المسكين قدرا من الأرز مع نصف دجاجة أو ربعها، بحسب الوسط من طعامه.
واختلف من قال: يغديهم أو يعشيهم، هل يشترط أن يطعمهم مرتين غداء وعشاء، أم يكفي إطعامهم مرة واحدة؟
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لا يجزئه إطعام العشرة وجبة واحدة غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء، حتى يغديهم ويعشيهم، وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار، وقول الشعبي وقتادة والنخعي وطاوس والقاسم وسالم.
وقال الحسن البصري: إن أطعمهم خبزا ولحما، أو خبزا وزيتا، مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا: أجزأه. وهو قول ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول، وروي ذلك عن أنس بن مالك." انتهى من "الاستذكار" (5/ 201).
والراجح أنه يكفي إطعامهم مرة واحدة، بشرط أن يشبعهم؛ لأن الإطعام مطلق غير مقدر في الشرع؛ فما سمي إطعاما أجزأ، ولفعل أنس رضي الله عنه.
قال البخاري في صحيحه: "وَأَمَّا الشَّيْخُ الكَبِيرُ، إِذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيَامَ: فَقَدْ أَطْعَمَ أَنَسٌ بَعْدَ مَا كَبِرَ، عَامًا أَوْ عَامَيْنِ، كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأَفْطَرَ".
وروى سعيد بن منصور في كتاب التفسير من سننه (794) عَنِ الْحَسَنِ: "فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، قَالَ: مَكُّوكًا مِنْ تَمْرٍ، ومَكُّوكًا مِنْ بُرّ، وَإِنْ دَعَاهُمْ فَأَطْعَمَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا، أَوْ خُبْزًا وَزَيْتًا، أَوْ خُبْزًا وَسَمْنًا، أَوْ خُبْزًا ولبنًا، أَجْزَأ ذلك عنه." وصحح إسناده محقق السنن الشيخ سعد الحميد.
قال المرداوي في "الإنصاف" (9/ 233): "قوله (وإن أخرج القيمة، أو غدى المساكين، أو عشاهم: لم يجزئه)، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وجزم به في المغني، والوجيز، والمنتخب، وغيرهم، وقدمه في المحرر، والشرح، والفروع، وغيرهم.
وعنه: يجزئه إذا كان قدر الواجب، واختار الشيخ تقي الدين - رحمه الله - الإجزاء، ولم يعتبر القدر الواجب، وهو ظاهر نقل أبي داود وغيره، فإنه قال "أشبعهم". قال: "ما أطعمهم؟" قال: "خبزا ولحما إن قدرت، أو من أوسط طعامكم." انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإذا اختار أن يطعم عشرة مساكين: فله ذلك.
ومقدار ما يطعم مبني على أصل، وهو أن إطعامهم: هل هو مقدر بالشرع؟ أو بالعرف؟ فيه قولان للعلماء:...
والقول الثاني: أن ذلك مقدر بالعرف، لا بالشرع، فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم، قدرا ونوعا.
وهذا معنى قول مالك؛ قال إسماعيل بن إسحاق: كان مالك يرى في كفارة اليمين أن المد يجزئ بالمدينة. قال مالك: وأما البلدان: فإن لهم عيشا غير عيشنا، فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم؛ لقول الله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) .
وهو مذهب داود وأصحابه مطلقا.
والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين: هذا القول؛ ولهذا كانوا يقولون: الأوسط خبز ولبن، خبز وسمن، وخبز وتمر. والأعلى خبز ولحم.
وقد بسطنا الآثار عنهم في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، وهو قياس مذهب أحمد وأصوله، فإن أصله أن ما لم يقدره الشارع، فإنه يرجع فيه إلى العرف، وهذا لم يقدره الشارع، فيرجع فيه إلى العرف، لا سيما مع قوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)..
وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزا، أو أدما، من أوسط ما يطعم أهله، أجزأه ذلك عند أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهم، وهو أظهر القولين في الدليل، فإن الله تعالى أمر بالإطعام؛ لم يوجب التمليك، وهذا إطعام حقيقة." انتهى من "مجموع الفتاوى" (35 / 349 – 352).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "فالصواب في هذه المسألة: أنه إذا غداهم أو عشاهم: أجزأه؛ لأن الله عزّ وجل قال: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ولم يذكر قدراً، ولم يذكر جنساً، فما يسمى إطعاماً، فإنه يجزئ.
وبناءً على ذلك: فإذا غدَّاهم، أو عشَّاهم: أجزأه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويدل له أن أنس بن مالك رضي الله عنه لمَّا كبر وعجز عن صيام رمضان، صار في آخره يدعو ثلاثين مسكيناً، ويطعمهم خبزاً وأدماً عن الصيام، مع أن الله قال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 184]؛ وهذا تفسير صحابي لإطعام المسكين بفعله.
واعلم أن الشرع في باب الإطعام ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما قدر فيه المدفوع والمدفوع إليه.
الثاني: ما قدر فيه المدفوع فقط.
الثالث: ما قدر فيه المدفوع إليه فقط.
فالذي قدر فيه المدفوع والمدفوع إليه: فدية الأذى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، فقدر المدفوع بنصف صاع، والمدفوع إليه ستة.
وما قدر فيه المدفوع دون المدفوع إليه، مثل صدقة الفطر، فإنها صاع، ولم يذكر المدفوع إليه، ولهذا يجوز أن تعطي الصاع ـ الفطرة الواحدة ـ عشرة.
وما قدر فيه المدفوع إليه دون المدفوع، مثل كفارة الظهار، وكفارة اليمين، وكفارة الجماع في نهار رمضان، وهذا الأخير هو الذي يجزئ فيه إذا غدى المساكين، أو عشاهم، أو أعطاهم خبزاً أيضاً، وكذلك الإطعام بدلاً عن الصوم، كالكبير الذي لا يرجى برؤه، فإنه يجزئ الغداء أو العشاء كما سبق." انتهى من "الشرح الممتع" (13/ 277).
والله أعلم.
تعليق