السبت 20 جمادى الآخرة 1446 - 21 ديسمبر 2024
العربية

ما الدليل على أن من نوى الكفر أو عزم عليه كفر في الحال؟

326429

تاريخ النشر : 09-03-2021

المشاهدات : 22791

السؤال

قرأت كثيرا أن معاصى القلوب بأنواعها، منها ما يكون محرما، ومنها ما يصل إلى درجة الكفر، ولا يحاسب عليها المرء ما لم تستقر بالقلب، وتستمر فى قلبه، وأقصد العمل القلبى نفسه، وليس مجرد وروده على الذهن، فأقصد مثلا الحقد والحسد وبغض الله تعالى أو بغض الرسول صلى الله عليه وسلم.... إلى آخره من أعمال القلب، ولكن أشكل علي أقوال للعلماء فيها أن من عزم على الكفر كفر فى الحال، فلم أفهم جيدا، ولم أعرف أن أوفق بين الأقوال، فظاهر معنى هذا الكلام الأخير أن من حقق هذا العزم كفر، حتى لو لم يستقر ويستمر هذا العمل القلبى، بل يكفر فورا، فلم أفهم، وطبعا العيب منى لجهلى وليس إن العلماء متناقضون، فأنا لست على علم، ولم أدرس شريعة أصلا، فآمل التوضيح.

ملخص الجواب

من عزم على الكفر أو نوى الكفر كفر في الحال لأمرين: 1. أن النية والعزم عمل مستقل من أعمال القلوب. والعزم على الكفر في المستقبل يناقض النية الجازمة المطلوبة. 2. أن هذا العزم على الكفر في المستقبل، مناف للاستدامة، التي هي شرط في النية، لصحة الأعمال، وأهمهما الإيمان. وينظر الجواب تفصيل ذلك في الجواب المطول

الحمد لله.

أولا:

الفرق بين الهم والخاطرة وبين العزم

هناك فرق بين الهم، والخاطرة، وبين العزم، كما دل عليه حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ قَالَ: 

 إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا: كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا، فَعَمِلَهَا: كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ.

وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا: كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا، فَعَمِلَهَا: كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً 

رواه البخاري (6491)، ومسلم (131).

مع حديث:  إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ  رواه البخاري (31)، ومسلم (2888).

وحديث أبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:  إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ  رواه أحمد (18031)، والترمذي (2325)، وابن ماجه (4228) وحسنه محققو المسند.

ثانيا:

أنواع الإيمان في القلب

الإيمان في القلب نوعان: قول القلب، وهو التصديق واليقين، وعمل القلب، وهو الانقياد والمحبة، والكفر ما يقابل ذلك، فيكون:

1-بزوال قول القلب، أي بزوال اليقين والتصديق، أو باعتقاد ما هو كفر كالتصديق بوجود إله ثان.

2-بزوال عمل القلب، أو بعمل ما هو كفر، كبغض الله أو بغض رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعلى ذلك؛ فمتى اعتقد، أو عمل بقلبه ما يناقض ذلك: لم يصح إيمانه.

قال ابن القيم رحمه الله: "وأما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك، فهو كافر، لزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الإقرار، فإذا زال العقد الجازم كان نفس زواله كفرا، فإن الإيمان أمر وجودي ثابت قائم بالقلب، فما لم يقم بالقلب، حصل ضده وهو الكفر، وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم حصل الجهل، وكذلك كل نقيضين زال أحدهما خلفه الآخر" انتهى من "زاد المعاد" (5/ 185).

وقال ابن رجب رحمه الله: "العزائم المصممة التي تقع في النفوس وتدوم، ويساكنها صاحبها، فهذا أيضا نوعان:

أحدهما: ما كان عملا مستقلا بنفسه من أعمال القلوب، كالشك في الوحدانية، أو النبوة، أو البعث، أو غير ذلك من الكفر والنفاق، أو اعتقاد تكذيب ذلك، فهذا كله يعاقب عليه العبد، ويصير بذلك كافرا ومنافقا. وقد روي عن ابن عباس أنه حمل قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [البقرة: 284] على مثل هذا. وروي عنه حملها على كتمان الشهادة لقوله تعالى: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة: 283] [البقرة: 283]. ويلحق بهذا القسم سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب، كمحبة ما يبغضه الله، وبغض ما يحبه الله، والكبر، والعجب، والحسد، وسوء الظن بالمسلم من غير موجب،...

والنوع الثاني: ما لم يكن من أعمال القلوب، بل كان من أعمال الجوارح، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، والقذف، ونحو ذلك، إذا أصر العبد على إرادة ذلك، والعزم عليه، ولم يظهر له أثر في الخارج أصلا. فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء..." انتهى من "جامع العلوم والحكم" (2/ 324).

ثالثا:

مقصود الفقهاء بالعمل المستقر

مقصود الفقهاء بالعمل المستقر ألا يكون مجرد وسوسة أو خاطرة يدفعها الإنسان، فهذا معفو عنه، كما روى مسلم (132) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ:  وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟  قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ:  ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ .

وروى مسلم (133) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوَسْوَسَةِ قَالَ:  تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ  أي: كراهتها واستعظام النطق بها.

قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (2/ 154): "أَمَّا مَعَانِي الْأَحَادِيث وَفِقْههَا فَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَلِكَ صَرِيح الْإِيمَان , وَمَحْض الْإِيمَان) مَعْنَاهُ: اِسْتِعْظَامُكُمْ الْكَلَام بِهِ: هُوَ صَرِيح الْإِيمَان , فَإِنَّ اِسْتِعْظَام هَذَا، وَشِدَّة الْخَوْف مِنْهُ وَمِنْ النُّطْق بِهِ، فَضْلًا عَنْ اِعْتِقَاده: إِنَّمَا يَكُون لِمَنْ اِسْتَكْمَلَ الْإِيمَان اِسْتِكْمَالًا مُحَقَّقًا، وَانْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَة وَالشُّكُوك" انتهى.

رابعا:

من نوى الكفر أو عزم عليه كفر في الحال

من عزم على الكفر، أو نوى الكفر: كفر في الحال، لأمرين:

الأول: أن النية والعزم عمل مستقل من أعمال القلوب. والعزم على الكفر في المستقبل: يناقض النية الجازمة المطلوبة.

ثم هذا العزم على الكفر، لا يكون إلا لشك في الإسلام، أو اعتقاد بطلانه، أو لبغضه، أو لمحبة الكفر، وكل هذا كفر، يزول به قول القلب أو عمله، أو هما معا.

وفي "الموسوعة الفقهية" (42/ 307): "ذهب الفقهاء إلى أنه إذا هم الشخص المسلم بالكفر، أو شك في الوحدانية أو النبوة أو البعث، أو نوى قطع إسلامه، أو تردد أيكفر أو لا، أو عزم على الكفر غدا أو في المستقبل، خرج من الإسلام وأصبح مرتدا في الحال ؛ لأن طريان الشك يناقض جزم النية بالإسلام." انتهى.

الثاني: أن هذا العزم على الكفر في المستقبل، مناف للاستدامة، التي هي شرط في النية، لصحة الأعمال، وأهمهما الإيمان.

"قال ابن الرفعة، رحمه الله:

"فرع: حكى في "البحر"، في الفروع المذكورة قبل كتاب الشهادات: أن العدل لو نوى أن يواقع كبيرة غدًا: كالقتل، والزنى- لم يصر به فاسقًا. وإذا نوى المسلم أن يكفر غدًا: فهل يكفر في الحال؟

فيه وجهان، والصحيح: أنه يصير كافرًا في الحال.

والفرق: أن نية الاستدامة في الإيمان شرط، والنية لا توجب في حق من لا ذنب له، فإنه ليس الأصل وجوب الفسق، والأصل فقد الإيمان، وإيجاب فعله." انتهى من"كفاية النبيه" (19/108).

وقال الكمال الدميري، رحمه الله:

"وأما العزم على الكفر.. فكفر في الحال. قال في (شرح المهذب) في باب (صفة الصلاة): لا خلاف في ذلك، لكن في (الشهادات) من (البحر) لو نوى أن يكفر غدًا.. كفر في الحال، على الصحيح.

وكذلك الحكم إذا علق الكفر بأمر مستقبل، كقوله: إن هلك ماله أو والده.. تهود أو تنصر؛ لأن نية الاستدامة شرط في الإيمان، بخلاف ما لو نوى العدل فعل كبيرة عمدًا؛ فإنه لا يفسق بذلك كما سيأتي في بابه." انتهى من "النجم الوهاج" (9/80).

وقال ابن حجر الهيتمي في "التحفة":

"(أو عزم على الكفر غدا) مثلا (أو تردد فيه): أيفعله أو لا ؛ (كفر) في الحال، في كل ما مر؛ لمنافاته للإسلام...

(تنبيه): ذكر مسألة العزم: ليبين أنه المراد من النية في كلامهم؛ لأنها قصد الشيء مقترنا بفعله، وهو [أي: الاقتران بالفعل]: غير شرط هنا"

قال ابن قاسم في حواشيه على "التحفة":

"قوله: (أو عزم على الكفر غدا أو تردد فيه كفر): قال الشارح في "الإعلام بقواطع الإسلام": وفارق ذلك عزم العدل على مقارفة كبيرة، فإنه لا يفسق: بأن نية الاستدامة على الإيمان شرط فيه، بخلاف نية الاستقامة على العدالة فإنها ليست شرطا فيها. وكأن وجه ذلك: أن الإيمان التصديق، وهو منتف مع العزم، والعدالة اجتناب الكبائر مع عدم غلبة المعاصي، والنية لا تنافي ذلك اهـ.

ولما عد في الروض من المكفرات قوله: أو عزم على الكفر، أو علقه أو تردد: هل يكفر؟

قال في شرحه: لأن استدامة الإيمان واجبة ؛ فإذا تركها كفر. ولهذا فارق عدم تفسيق العدل بعزمه على فعل كبيرة، أو تردد فيه اهـ فليتأمل". انتهى، من "تحفة المحتاج" وحاشية ابن قاسم العبادي (9/89).

2-وقال الملا علي القاري الحنفي في شرح قول الناظم:

ومن ينوى ارتدادا بعد دهر يصر عن دِين حق ذا انسلال

"والمعنى: أن من ينوي الارتداد بعد مدة، طالت أو قصرت: يخرج بذلك عن الدين الحق، والإيمان المطلق في الحال، وإن قصد الاستقبال؛ لأن استدامة الإيمان من واجبات الإيقان، كما قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) أي اثبتوا، فإذا أتى بما ينافيها، ولو بالنية: فقد كفر اتفاقا.

ولأن قصد الكفر: ينافى التصديق، ويزيل التحقيق.

ولأنه رضى بالكفر ؛ والرضى بكفر نفسه: كفر، إجماعا" انتهى من "ضوء المعالي على منظومة بدء الأمالي" ص111.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب