الحمد لله.
أولا:
الوفاء بالوعد من صفات المؤمنين ، وإخلافه من صفات المنافقين ، كما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أربع مَن كنَّ فيه كان منافقاً ، ومن كانت فيه خصلة من أربعة : كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلفَ، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر رواه البخاري (2327)، ومسلم (58).
ومن يواعد الناس ويخلف وعده له حالان:
الأول : أن يكون معذورًا في إخلاف وعده ، وفي هذه الحالة لا إثم عليه ولا ملامة ، ولكن ينبغي أن يعتذر ممن وعده ، ويبين له السبب إن أمكنه ذلك ، مراعاة لمشاعره ، ودفعا لظن السوء به.
وينظر لمعرفة بعض الأعذار التي تؤدي إلى إخلاف الوعد في الفتوى رقم: (30861).
الثاني : ألا يكون معذورًا في إخلاف وعده ، فحكمه بين التحريم والكراهة الشديدة .
وينظر لمزيد من الفائدة أجوبة الأسئلة أرقام: (160964)، (264311)، (408688)
ثانيا:
اختلف العلماء في مسألة الرجوع في الوعد بالهبة على قولين:
القول الأول: أن الوعد بالهبة غير ملزم ، فمن وعد آخر بهبة ثم رجع في وعده: لا يلزمه دفعها إليه ، ولكن الواعد إذا ترك الوفاء به ، فقد فاته الفضل ، وارتكب المكروه كراهة تنزيهية شديدة؛ وإن كان لا يأثم.
وذهب إلى ذلك : الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة ، وقول للإمام مالك .
وينظر : "الهداية" (3/248)، و"نهاية المحتاج"(5/422)، و"الفروع" لابن مفلح (6/415).
بل قد حكى ابن عبد البر عدم الخلاف في ذلك فقال في "الاستذكار" (5/ 159) : " وَفِي هَذَا مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِدَةَ وَاجِبٌ الْوَفَاءُ بِهَا ، وُجُوبَ سُنَّةٍ ، وَذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْإِيمَانِ ...
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَرْضًا : لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ وُعِدَ بِمَالٍ مَا ؛ لَمْ يَضْرِبْ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ [ أي : لا يكون الواعد مدينا له] .
كَذَلِكَ قُلْنَا : إِيجَابُ الْوَفَاءِ بِهِ: حَسَنٌ فِي الْمُرُوءَةِ ؛ وَلَا يُقْضَى بِهِ.
وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا: أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحْسَنٌ، يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ، وَالْمَدْحَ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، وَيَسْتَحِقُّ عَلَى الْخُلْفِ فِي ذَلِكَ الذَّمَّ " انتهى.
القول الثاني : وهو قول المالكية ، أنه لا يجوز الرجوع في الوعد إذا أدخله في سبب ملزم أو غرم بسبب وعده ، وذلك كما إذا وعده أن يسلفه ثمن دار يريد شراءها ، فاشتراها الموعود حقيقة ، أو أن يقرضه مبلغ المهر في الزواج ، فتزوج اعتمادا على هذا الوعد ؛ ففي هاتين الحالتين وأمثالهما : يلزم الواعد قضاء بإنجاز وعده. أما إذا لم يباشر الموعود السبب ، فلا يلزم الواعد بشيء .
وقال القرافي: " قال ابن يونس: إذا سألك أن تهب له دينارًا ، فقلت : نعم ، ثم بدا لك ، قال مالك : لا يلزمك. . . قال سحنون : الذي يلزم من العِدَةِ : اهدم دارك وأنا أسلفك ، أو اخرج إلى الحج ، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك ، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك ، أما مجردًا لوعد فلا يلزم ، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق " انتهى من "الذخيرة" (6/297).
وينظر جواب السؤال (402245)
وقال الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع" (11/70-72):
" إذا تمت الهبة بالإيجاب والقبول ، بأن قال : وهبتك كتابي الفلاني ، فقال : قبلت ، ولم يسلمه له ، ثم رجع ، فرجوعه جائز ؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض.
والدليل على أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض : أن أبا بكر رضي الله عنه ، وهب عائشة رضي الله عنها ثمرة نخل ، ثم لما مرض رجع فيها ، وقال لها : لو أنك جذذتيه كان لك ، أما الآن فهو ميراث ، فدل هذا على أنها لا تلزم إلا بالقبض ...
ولو وهب شيئاً ، ولم يُقبِضه ، ثم باعه ، فإن البيع يصح ؛ لأن الهبة لا تلزم ، إلا بالقبض " انتهى بتصرف يسير.
والحاصل: أنك لست مدينًا لصديقك بالمال الذي وعدته به؛ لأن الهدية لا تلزم إلا بالقبض، ولكن إذا كنت أخلفت وعدك بغير عذر فقد وقعت في كراهة شديدة.
والله أعلم.
تعليق