الحمد لله.
أولاً : من جلس في مكان من المسجد فقام منه لحاجة ، كوضوء أو غيره ثم عاد إليه فهو أحق به ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ) رواه مسلم (2179) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ ، وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ ، ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ ) رواه الترمذي (2751) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3544) .
وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال (66279) .
ويجب على من جلس فيه أن يقوم منه إذا رجع إليه الأول .
قال النووي رحمه الله : " هذا هو الصحيح عند أصحابنا ، وأنه يجب على من قعد فيه مفارقته إذا رجع الأول ، وقال بعض العلماء : هذا مستحب ولا يجب ، وهو مذهب مالك ، والصواب الأول " انتهى من "شرح النووي على صحيح مسلم" (14/162) .
وهذا إذا ترك المكان لعذر ، ثم عاد إليه ، فأما إن تركه لغير عذر فيبطل حقه فيه بلا خلاف .
ذكره النووي في "المجموع" (4/420) .
ثانياً : إذا كان يترتب على رجوعه إلى مكانه الذي يجلس فيه تخطي الرقاب ، فينبني الحكم فيه على حكم مسألتين : تخطي الرقاب ، وتخطي الرقاب إلى فرجة في الصف المقدم .
أما تخطي الرقاب فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين ، فذهب جمع من العلماء إلى كراهة ذلك ، وذهب آخرون إلى تحريمه .
وسبق في جواب السؤال (41731) بيان ذلك ، وأن الصحيح هو القول بالتحريم .
هذه المسألة الأولى ، وأما المسألة الثانية وهي حكم تخطي الرقاب إلى فرجة في الصف المقدم .
قال ابن قدامة في "المغني" (2/101) :
" إذا جلس في مكان ثم بدت له حاجة , أو احتاج إلى الوضوء , فله الخروج [ يعني ولو أدى ذلك إلى تخطي الرقاب ] قال عقبة : صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ , فَسَلَّمَ , ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا , فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلَى حُجَرِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَ : ( ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي , فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .. . فإذا قام من مجلسه , ثم رجع إليه فهو أحق به . . وحكمه في التخطي إلى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجة " انتهى باختصار .
وقال أيضاً :
" " فإن رأى فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي , ففيه روايتان :
إحداهما : له التخطي . قال أحمد : يدخل الرجل ما استطاع , ولا يدع بين يديه موضعا فارغا , فإن جهل فترك بين يديه خاليا فليتخط الذي يأتي بعده , ويتجاوزه إلى الموضع الخالي , فإنه لا حرمة لمن ترك بين يديه خاليا , وقعد في غيره . وقال الأوزاعي : يتخطاهم إلى السعة . وقال قتادة : يتخطاهم إلى مصلاه . وقال الحسن : تخطوا رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد , فإنه لا حرمة لهم , وعن أحمد , رواية أخرى : إن كان يتخطى الواحد والاثنين فلا بأس , لأنه يسير , فعفي عنه , وإن كثر كرهناه , وكذلك قال الشافعي , إلا أن لا يجد السبيل إلى مصلاه إلا بأن يتخطى , فيسعه التخطي , إن شاء الله تعالى , ولعل قول أحمد , ومن وافقه في الرواية الأولى , فيما إذا تركوا مكانا واسعا , مثل الذين يصفون في آخر المسجد , ويتركون بين أيديهم صفوفا خالية , فهؤلاء لا حرمة لهم كما قال الحسن ; لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ورغبوا عن الفضيلة وخير الصفوف , وجلسوا في شرها , ولأن تخطيهم مما لا بد منه , وقوله الثاني في حق من لم يفرطوا , وإنما جلسوا في مكانهم ; لامتلاء ما بين أيديهم , لكن فيه سعة يمكن الجلوس فيه لازدحامهم , ومتى كان لم يمكن الصلاة إلا بالدخول وتخطيهم , جاز ; لأنه موضع حاجة " انتهى .
وقال النووي في "المجموع" (4/420) :
" وإن رأى فرجة قدامهم , لا يصلها إلا بالتخطي ، قال الأصحاب : لم يكره التخطي ; لأن الجالسين وراءها مفرطون بتركها , وسواء وجد غيرها أم لا ، وسواء كانت قريبة أم بعيدة ، لكن يستحب إن كان له موضع غيرها أن لا يتخطى , وإن لم يكن موضع , وكانت قريبة بحيث لا يتخطى أكثر من رجلين ونحوهما دخلها , وإن كانت بعيدة ورجا أنهم يتقدمون إليها إذا أقيمت الصلاة يستحب أن يقعد موضعه ولا يتخطى , وإلا فليتخط . . . ثم ذكر عن قتادة أنه قال : يتخطاهم إلى مجلسه ، وعن أبي نصر جواز ذلك بإذنهم , قال ابن المنذر : لا يجوز شيء من ذلك عندي . لأن الأذى يحرم قليله وكثيره " انتهى باختصار .
ونقل الحافظ في "فتح الباري" (2/433) عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال :
أَكْرَه التَّخَطِّيَ إِلا لِمَنْ لا يَجِد السَّبِيل إِلَى الْمُصَلَّى إِلا بِذَلِكَ اهـ .
ثم قال الحافظ : " وَهَذَا يَدْخُل فِيهِ الإِمَام ، وَمَنْ يُرِيد وَصْل الصَّفّ الْمُنْقَطِع إِنْ أَبَى السَّابِقُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ يُرِيد الرُّجُوع إِلَى مَوْضِعه الَّذِي قَامَ مِنْهُ لِضَرُورَةٍ " انتهى
وقال الشيخ ابن عثيمين في " الشرح الممتع" (5/70) :
" فإن قال قائل : الحديث عام (اجلس فقد آذيت) ؛ لأن ظاهر الحال أن هناك فرجة ؛ لأنه ليس من العادة أن يتخطى الإنسان الرقاب إلا إلى فرجة .
ولكن الفقهاء رحمهم الله استثنوا هذه المسألة ، فقالوا : لأنه إذا كان ثمة فرجة فإنهم هم الذين جنوا على أنفسهم ؛ لأنهم مأمورون أن يكملوا الأول فالأول ، فإذا كان ثمة فرجة فقد خالفوا الأمر ، وحينئذٍ يكون التفريط منهم ، وليس من المتخطي .
ولكن الذي أرى : أنه لا يتخطى حتى ولو إلى فرجة ؛ لأن العلة وهي الأذية موجودة ، وكونهم لا يتقدمون إليها قد يكون هناك سبب من الأسباب ، مثل : أن تكون الفرجة في أول الأمر ليست واسعة ، ثم مع التزحزح اتسعت ، فحينئذٍ لا يكون منهم تفريط ، فالأولى الأخذ بالعموم وهو ألا يتخطى إلى الفرجة ، لكن لو تخطى برفق واستأذن ممن يتخطاه إلى هذه الفرجة فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس " انتهى .
والحاصل أن تخطي رقاب الناس لا يخلو من حالين :
الأولى :
أن يكون لغير عذر ، فهذا يحرم لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) الأحزاب/58 .
ولقوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذي تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ : ( اجْلِسْ ، فَقَدْ آذَيْتَ ) .
الثانية :
أن يكون ذلك لعذر ، فلا حرج فيه إن شاء الله ، ويدخل في ذلك عدة صور :
فمنها : الإمام إذا كان لا يجد طريقاً إلى موضعه إلا بالتخطي .
ومنها : أن يريد الخروج من مكانه لحاجة ، لحديث عقبة المتقدم .
ومنها : إذا كان جالسا في موضع متقدم ثم قام منه لعارض ثم عاد إليه جاز له التخطي .
وخلاصة الجواب :
أنه لا حرج إن شاء الله تعالى على من تخطى الرقاب ليعود إلى مجلسه الذي قام منه ، على أن يكون ذلك برفق ويستأذن من الناس ، وقد جرت عادة الناس بالتسامح مع من يتخطى إلى موضعه الذي قام منه .
والله أعلم .
تعليق