الأربعاء 17 جمادى الآخرة 1446 - 18 ديسمبر 2024
العربية

هل العصاة من (أهل الشقاء) المذكورين في القرآن؟

390508

تاريخ النشر : 03-04-2023

المشاهدات : 2110

السؤال

هل معنى أهل الشقاء يشمل المخلدين في النار للأبد وأهل النار من الموحدين الذين يخرجون منها بعد فترة، أم يشمل المخلدين فقط؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

لا بد من العلم أن أهل السنة وسط في "بَابِ ‌الْوَعْدِ ‌وَالْوَعِيدِ، بَيْنَ الْوَعِيدِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي النَّارِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بَعْضَ الْوَعِيدِ، وَمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْأَبْرَارَ عَلَى الْفُجَّارِ"، انتهى من "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لابن تيمية (1/ 74-75).

قال ابن تيمية: " وأما من كان داخلا في الوعد والوعيد: فمذهب الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة أنه يستحق الثواب والعقاب جميعاً، فإذا عذّبه الله بذنوبه ما شاء أن يعذبه أخرج بعد ذلك من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان"، انتهى.

انظر: "فصل في تزكية النفس" (ص55).

فمن رحمة الله تعالى أن أحدًا من أهل التوحيد لن يخلد في النهار، وإنما يعذب في النار بمقدار سيئاته، ثم يخرج من النار برحمة الله وفضله.

وأما أهل الشرك فإنهم مخلدون في النار، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ‌وَمَنْ ‌يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48].

وقال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ‌وَمَنْ ‌يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 116].

وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ‌مَنْ ‌يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ المائدة/72.

ثانيًا:

ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى ذكر أهل الشقاء، أعاذنا الله منهم، فقال سبحانه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ ‌شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود/103-108.

"والأشهر أن الضمير في (فمنهم) يعود على الخلق كلهم، على كل نفس"، كما في "الهداية الى بلوغ النهاية" (5/3464).

و"الأكثرون من أهل المعاني والتفسير على أن قوله: مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ للتأبيد والمراد به خالدين فيها أبدًا".

انظر: "التفسير البسيط" (11/556).

وذكر بعض العلماء في هذه الآية الخلاف في الاستثناء، وأن بعض الأقوال فيه يترتب عليها شمول أهل الشقاء للفريقين، من يدخل النار خالدًا فيها، ومن يدخلها من عصاة المؤمنين لتنقيتهم من الذنوب، أعاذنا الله من النار وأهلها.

قال "ابن جزي": "في هذا الاستثناء ثلاثة أقوال:

قيل إنه على طريق التأدب مع الله كقولك: إن شاء الله، وإن كان الأمر واجبًا.

وقيل: المراد به زمان خروج المذنبين من النار، ويكون ‌الذين ‌شقوا على هذا يعم الكفار والمذنبين.

وقيل: استثنى مدة كونهم في الدنيا وفي البرزخ"، انتهى من "تفسير ابن جزي" (1/378).

وقال سبحانه: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا ‌الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) الليل/14-16.

قال ابن كثير: "وَقَوْلُهُ: ‌لَا ‌يَصْلاهَا ‌إِلا ‌الأشْقَى أَيْ: لَا يَدْخُلُهَا دُخُولًا يُحِيطُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ؛ إِلَّا الْأَشْقَى. ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: الَّذِي كَذَّبَ أَيْ: بِقَلْبِهِ، وَتَوَلَّى أَيْ: عَنِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ وأركانه" انتهى من "تفسير ابن كثير" (8/421).

وروى البخاري في صحيحه (4948) عَنْ ‌عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: " كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ ‌أَهْلِ ‌الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ ‌أَهْلِ ‌الشَّقَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى الْآيَةَ).

قال الوزير "ابن هبيرة" : "فأما السعادة والشقاوة، فإن من سبقت له السعادة، فإن الله سيوفقه لعمل أهل السعادة إلا أنه لا يؤمن عليه، فإن عمله لا يؤمن عليه آفات عمله إلى وقت موته أن ينقلب حاله فيختم له بعمل الأشقياء، ويكون قد كان سبق في علم الله تعالى الذي أظهره إلى الملك أن هذا يعمل أولا بعمل أهل الخير، ثم يختم له بعمل أهل الشر حتى لا يركن أحد إلى عمل فيكون هذا ممن كتب شقيا إلا أنه نادر في الأشقياء.

ويكون السعيد قد يسر لعمل أهل السعادة إلا أنه قد يعمل الواحد منهم بعمل أهل الشقاء فأدركته الرحمة فلم يقنط من رحمة ربه وتاب إلى الله عز وجل عند آخر نفس فتختم له بالسعادة، وهذا مما يكون سابقًا في العلم أنه يجري لذلك، إلا أن هذا يكون نادرًا في السعداء أيضًا".

انتهى من " الإفصاح عن معاني الصحاح" (5/ 53-54).

والحاصل مما سبق:

أن عامة النصوص قد ذكرت (أهل الشقاء) بمعنى الكفار، وهؤلاء مخلدون في النار.

وقد ذكر بعض العلماء: أن آية سورة (هود) يدخل فيها أهل الذنوب، فنفهمها في ضوء باقي نصوص الوعد والوعيد، وأنهم يدخلون النار بمقدار تطهيرهم من ذنوبهم، ثم يخرجون منها برحمة الله ومنته.

وقد قال يحيى بن معاذ: "الوعد والوعيد حقّ، فالوعد حقّ العباد على الله، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، ومن أولى بالوفاء من الله، والوعيد حقّه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا، فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ لأنه حقه، وأولاهما بربنا تبارك وتعالى العفو والكرم؛ إنه غفور رحيم".

انظر: "الحجة في بيان المحجة" (2/74).

فالواجب تجاه نصوص الوعد والوعيد: الإيمان بجميع تلك النصوص، والتسليم لها، وإجلالها وتعظيمها، فنؤمن بالله تعالى، وما جاء عن الله، على مراد الله تعالى، ونؤمن برسول الله، وما جاء عن الرسول، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن تيمية: "لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10].

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا) [النساء:29 - 30]، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، والعبد عليه أن يصدق بهذا وهذا …"، انتهى من "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (8/270).

وانظر الأجوبة: (11742)، (130860).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب