الحمد لله.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن المعازف ومنها المزمار، وورد استثناء الدف من ذلك في مواطن معيّنة لإظهار الفرح والسرور، وقد سبق بيان كل هذا في جواب السؤال رقم: (20406)، ورقم: (85430).
والشرع إذا فرق بين أمرين فلا شك أنهما لا يستويان، فلذا اختلفا في الحكم، فالله سبحانه وتعالى هو الخبير الحكيم العدل في أفعاله وشرعه .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" قد استقرت شريعته سبحانه أن حكم الشيء حكم مثله، فلا تفرق شريعته بين متماثلين أبدا، ولا تجمع بين متضادين ... فبحكمته وعدله ظهر خلقه وشرعه، وبالعدل والميزان قام الخلق والشرع، وهو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين " انتهى من "زاد المعاد" (4/248).
فمن المقطوع به والمشاهد أن للمعازف تأثيرا بالغا على النفوس، ولذا تتطلع إليها وتتعلق بها إن اعتادت سماعها، فهي كالخمر لشاربها، وتأثيرها على السامع إنما هو تأثير سيء؛ لأنها تنزع عن المستمع لها لباس التقوى والمروءة والوقار، وتلبسه لباس خفة العقل وقلة المروءة واتباع الشهوات والأهواء، وهذا أمر مشاهد، ومركوز في الفطر بأن أصوات المعازف أليق بمجالس الشراب والنساء وشهوات الدنيا، فيتناقض في العقل اجتماع المعازف مع حال الخشوع والقنوت لله تعالى.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن أصوات هذه المعازف:
" يوجب طربا يخرج عن الاعتدال فيمنع منه ذلك.
وقال ابن عقيل: الأصوات على ثلاثة أضرب: محرم، ومكروه، ومباح.
فالمحرم: الزمر، والناي، والسرنا، والطنبور، والمعزفة، والرباب وما ماثلها، نص الإمام أحمد بن حنبل على تحريم ذلك، ويلحق به الجرافة، والجنك؛ لأن هذه تُطرب، فتُخرج عن حد الاعتدال، وتفعل في طباع الغالب من الناس ما يفعله المسكر وسواء استعمل على حزن يهيجه أو سرور " انتهى من "تلبيس إبليس" (ص 218).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل، وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله، وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه...
فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الدباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوار الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين... " انتهى من "إغاثة اللهفان" (1/440).
ولذا يذكر المفسرون أصوات المعازف ضمن صوت الشيطان، كما في قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا الإسراء/64.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعى إلى المعصية، ولهذا فُسِّر صوت الشيطان به " انتهى من "إغاثة اللهفان" (1/451).
فإذا علم هذا كله، علم سبب استثناء الدف؛ لأن الأثر الذي يتركه الدف على السامع لا يقارن بأثر المزمار وسائر المعازف؛ وهذا معلوم بالمشاهدة أيضا، وليس بمجرد الخبر.
فالدف الخالي من أي توابع من أجراس وغيرها، رنته ونغمته ساذجة بسيطة، وليس فيها تنوع واسع، بخلاف نغمات المزمار، وهذا بدوره يسوق إلى فرق آخر، وهو أن السماع إلى الدف بسبب بساطة نغمته لا يجلب الإدمان، بل كثرته ربما تجلب الملل، بخلاف المزمار ونحوه فبسبب تنوع نغامته وشدة أثرها تشد السامع إليه وتنقله من نغم إلى آخر، فتجره إلى الإدمان عليه، فيكون أثره أقوى ومفسدته محققة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
"إذا كانت المعازف حراما فإنه لا يحل منها إلا ما خصه الدليل، وبالقيود التي جاءت به.
وهذه قاعدة مهمة إذا جاءنا نص عام، ثم ورد تخصيصه فإنه يتقيد ـ أي التخصيص ـ بالصورة التي ورد بها النص فقط، مثلا: وردت إباحة الدف في موضعه، فهل يمكن أن يقول قائل: إذًا جميع آلات العزف تباح في مثل هذه المناسبات قياسا على الدف؟
الجواب: لا يصح؛ لأن التخصيص إذا ورد يجب أن يكون في الصورة المعينة التي ورد بها، ولا يمكن أن تقاس بقية المعازف على الدف؛ لأنها أشد تأثيرا من الدف؛ وذلك لأصواتها ورناتها، والنفوس تطرب بها أكثر مما تطرب بالدف " انتهى من "الشرح الممتع" (12 / 351 - 352).
ثم إن المسلم يوجب عليه إسلامه، الذي حقيقته الاستسلام إلى الله تعالى الخبير الحكيم، أن يتبع أدلة الشرع وإن لم يدرك حكمة الأوامر والنواهي الواردة فيها.
فالمسارعة إلى التصديق للدليل إذا صح هو سمة الصادقين في إيمانهم.
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى:
" اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله، على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع.
ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك " انتهى من "شرح الطحاوية" (ص 261).
وطالع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (152009).
والله أعلم.
تعليق