الحمد لله.
أولًا:
إن دعوى الاقتباس القرآني من أسفار أهل الكتاب: هي الشبهة القديمة المتجددة، وهي ترمي إلى هدف واحد هو: العلم أن التشابه بين القرآن الكريم والكتاب المقدس، إذا لم يفسر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ من أسفار أهل الكتاب - مباشرة أو بطريق واسطة - ؛ فإنه لا دلالة أخرى غير الإقرار أن مصدر هذا التشابه هو الوحي الرباني.
وإذا لم يكن ثم مجال عند القوم للتسليم بربانية القرآن؛ فلم يبق إلا السعي الحثيث لإعلان هذه الدعوى، ونشرها في الناس: أن القرآن مقتبس مما سبقه.
والهدف هو إسقاط ربانية القرآن وافتراء بشريته المزعومة.
ثانيًا:
الأوجه المحتملة لإدراك النبي صلى الله عليه وسلم خبر أهل الكتاب، ومن ثَمَّ: نقله في القرآن -غير كونه وحياً - : هي احتمالات لا تخرج عن صور تعلمه صلى الله عليه وسلم أخبارهم، مباشرة، من كتبهم المقدسة، أو تلقيه ما فيها من خبر وأمر ونهى، من أفواه أهل الكتاب، إذا تعذر عليه سبيل الدراسة المباشرة.
وهذه الشبهة مبناها على عدة دعاوى، هي لوازم لها؛ فإذا انتفت هذه اللوازم، انتفى ملزومها، وانحلت هذه الشبهة من جذورها، فلا تقوم لها قائمة.
ويمكن رد هذه اللوازم إلى ثلاثة أساسية:
1. إنكار أمية النبي صلى الله عليه وسلم.
2. الأسفار النصرانية كانت متاحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم للنقل عنها.
3. كانت مكة مركزا تعليميا راقيا للدراسات القرآنية.
وسنتناول هذه الأصول الثلاثة بشكل مختصر يأتي عليها من القواعد بحول الله.
ثالثاً:
أمية الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن أحد سبل تحصيل الأخبار: هو التلقي المباشر، وهذا لا يكون إلا لمن يمتلك الأدوات العلمية، والأدوات العلمية إما تتعلق بالمتلقي، وإما تتعلق بالمادة العلمية التي يأخذ منها.
وفي نقض التعلق الخاص بالمتلقي: نأتي على دعوى إبطال أمية النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي إبطال التعلق الثاني: ننقض دعوى وجود ترجمات عربية قبل البعثة النبوية.
إن أمية النبي صلى الله عليه وسلم تقف عقبة أمام دعوى اقتباس القرآن من كتب أهل الكتاب، فلا يمكن العبور إلى إثبات هذه الدعوى، إلا بإبطال حقيقة هذه الأمية.
انتهج المخالفون منهجا غيرَ منصف لإبطال أمية النبي صلى الله عليه وسلم، فعمدوا إلى الضعيف من النقول، أو المتشابه من الأقوال، أو اعتمدوا على احتمالات بعيدة لا تحتملها النصوص، وتركوا النصوص الصريحة المحكمة.
والسبب في هذا التعاطي مع النصوص: هو الرغبة في الوصول إلى منشودهم، في إدانة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار ربانية القرآن الكريم.
وقد استفاضت نصوص الوحيين، القرآن والسنة بما لا يدع مقالة لقائل في شأن أمية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ما تلا قبل الوحي شيئا من هذا الأخبار، ولم يخُطَّ بيمينه، ولم يَدْرِ عن هذه الأخبار قبل مبعثه، ولم يحدث بها قبل البعثة.
وهذه النصوص وقفت عقبة كؤودا أمام المستشرقين والمنصرين، فتعاملوا معها بأحد منهجين: إما رد النصوص المستفيضة في إثبات الأمية، وجعلها افتعالا إسلاميا لا حقيقة تاريخية، أو قبول مجمل النصوص، مع تأويل دلالتها خارج الحقل الدلالي اللغوي والسياق القرآني والنبوي.
وكلا المنهجين يحويان في طياتهما خللا، وضعفا منهجيا، وتحيزا معرفياً صارخا.
ومناقشة طرحهم بالتفصيل: لا يتسع له هذا الجواب. وهناك كتب أفردت لمناقشة هذه الشبه، والرد عليها بشكل مفصل.
ولأهمية هذا المطلب -إثبات أمية النبي صلى الله عليه وسلم – سنذكر بعض الأدلة من القرآن الكريم، والشواهد من السنة النبوية المطهرة التي تثبت يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ولم يكتب.
قال تعالى: وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ العنكبوت/ 48
تنفي هذه الآية المحكمة عن الرسول صلى الله عليه وسلم دراسة كتب أهل الكتاب، كما تنفي أيضا نسخ هذا الكتاب فهي تقرر عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بأسفار أهل الكتاب.
وفي هذا رد صريح مباشر على الزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على علم واطلاع عميقين بأسفار أهل الكتاب.
كما تؤيد آياتٌ أخرى علم أهل مكة بعدم دراية النبي صلى الله عليه وسلم بأسفار أهل الكتاب، كقوله تعالى: وَكَذَٰلِكَ أوحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ الشورى/ 52
وقوله تعالى: قُل لَّوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ وَلَآ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ يونس/ 16.
وأما وقائع السيرة النبوية، المثبتة لأمية الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي كثيرة. منها:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنَّا أمَّة أمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا. يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين رواه البخاري (1814) ومسلم (1080) .
وفي هذا الحديث تقرير واضح للأمية المقصودة هنا، بما ينفي كل تأويل، أو لبس؛ وأنها تعني: عدم الكتابة، وعدم الحساب.
2- لم تذكر كتب السير والتاريخ: أن النبي قام بكتابة الوحي، أو تولى كتابة رسائله للملوك، بل العكس هو المذكور؛ فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم كُتَّاب للوحي ولشؤونه الأخرى.
وفي نص بديع لابن خلدون يصف فيه الحالة المعرفية في جزيرة العربية قبيل البعثة النبوية يقول: "إن الكتابة في العرب كانت أعز من بيض الأَنُوق، وإن أكثرهم كانوا أميين، ولا سيما سكان البادية؛ لأن هذه الصناعة من الصنائع التابعة للعمران"
ولذلك ما كان العرب يشيرون إلى الأمي بالأمية، وإنما كانوا يشيرون إلى من يعلم القراءة والكتابة بالعلم؛ إذ إن علم القراءة والكتابة كان هو الاستثناء، لا الأصل في الناس. وسكوت نصوص الوحي وكتب التاريخ الإسلامي عن وصف محمد صلى الله عليه وسلم بالقراءة والكتابة، يكفي لإلزام الباحث أن يستصحب الأصل في ذلك الزمان، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب.
وفي نهاية هذا المطلب ينبغي الإشارة إلى قول الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه دفاع عن القرآن ضد منتقديه:
"ولكي نفترض صحة هذا الزعم؛ فلابد أن محمدًا كان يعرف العبرية والسريانية واليونانية.
ولا بد أن يكون لديه مكتبة عظيمة، اشتملت على كل نصوص التلمود والأناجيل الصحيحة، وكذلك بعض أعمال الآباء اليونانيين، وكتب مختلف الكنائس والمذاهب المسيحية".
في ضوء هذا النقل: يتبين أن دعوى الاقتباس تتجاوز مسألة إبطال الأمية، إلى لزوم إثبات الموسوعية المعرفية!!
وإذا كانوا قد عجزوا عن إبطال الأمية؛ فما الظن بإثبات الموسوعية؛ وهذا أمر دونه خرط القتاد.
ولك ان تعلم أن هذا القدر من الموسوعية، لم يتحقق لأيٍّ من رجال أهل الكتاب أنفسهم في ذاك الزمان؛ فكيف برجل من قريش؟!
رابعا:
دحض دعوى وجود ترجمات عربية لكتب أهل الكتاب قبل البعثة:
البحث في هذه المسألة ينبغي أن يكون بحثا تاريخيا استقرائيًّا، بعيدا عن التشهي أو التحيز التاريخي، يعتمد على النظر في القضية في مظانها التاريخية.
وهنا نستطيع ان نستنطق شهادات أوثق المصادر التاريخية، وهي القرآن والسنة -المصدران التاريخيان الوثيقان في دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم – وكذلك حجة الأكاديميين الغربيين، وإقرارات المخالفين لنا، ممن لا تحوم حولهم شبهة التعاطف مع الإسلام، فهي أقوى حجة ضد المنصرين والمستشرقين وأشد عليهم من وقع النبل.
شهادة القرآن الكريم والسنة النبوية:
إن الدارس لحياة النبي صلى الله عليه وسلم: يرى غياب أي دليل أو إشارة على وجود ترجمة عربية للكتاب المقدس، بل قد يُستنبط من القرآن والسنة خلاف ذلك، وهو عدم وجود ترجمة عربية.
روى البخاري في صحيحه (4485) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان أهل التوراة يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا .
فهذا الحديث يدل على احتكار اليهود للنص، وتفسيره. ولو كان نصوصهم معروفة بالعربية، لما احتيج إلى اليهود في قراءة النص، أو تفسيره.
ومما يؤكد هذا المعنى قول الله تعالى: وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقٗا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هو مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هو مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هو مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ آل عمران/ 78.
فاليهود لما كانوا يلوون ألسنتهم أثناء ذكرهم بعض الخبر الديني، إيهاما أن قولهم هذا نقلٌ لما جاء في كتبهم، كان المسلمون في عجز عن مراجعة تلك الكتب لمعرفة صحة النقل عنها؛ وما ذلك إلا لأن الكتب لم تكن متاحة بلغة العرب. ولذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال أهل الكتاب؛ دلالة على احتكار أهل الكتاب لعلم كتابهم. وقد بوب البخاري بابًا في "قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا اهل الكتاب".
ولعل من البراهين الواضحة الجلية: عدمُ إحالة مشركي العرب إلى هذا النص المترجم إلى العربية، لما أرادوا نفي النبوة عنه، وضاقت عليهم الحيل، وزعموا أن فتىً أعجميًّا هو الذي كان يعلم النبي صلى الله عله وسلم، ولو أن هذا النص المترجم كان موجودا، لقالوا: إنك قد قرأت هذا النص، أو قرئ عليك.
وقد وثق القرآن تهمتهم، ونفاها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ النحل/103.
شهادة الأكاديميين الغربيين:
لن نطيل في استقراء إقرارات الأكاديميين في هذا الباب، وإنما يكفينا في هذا المقام ما خلصت إليه الأبحاث الأكاديمية في هذا الباب.
ولعل أهم ما كتب في هذا الباب كتاب "بروس متزغر" أستاذ لغة العهد الجديد وآدابه، في كتابه "The Bible in Translation":
"من الراجح أن أقدم التراجم العربية للكتاب المقدس، تعود إلى القرن الثامن".
وكتب المستشرق توماس باتريك هوغز: "لا توجد حجة على أن محمدا قد اطلع على الأسفار المسيحية المقدسة...لا بد أن يعلم أنه لا توجد آثار واضحة على وجود ترجمة عربية للعهدين القديم والجديد سابقة لزمن محمد".
وقال ألبرت إستيرو: "ربما ظهرت الترجمات العربية للكتاب المقدس في الفترة الأخيرة من الحكم الأموي في بداية القرن الثامن".
وخلص جريف إلى أن "كل ما يمكن أن يقوله الواحد عن إمكانية وجود ترجمة عربية للإنجيل، قبل ظهور الإسلام، هو أنه لم تظهر علامة يقينية على هذا الأمر".
وخلاصة هذا الأمر، ما نقله "ويليام هنري بنوك"، الذي هو بمثابة إجماع النقاد: "أن القول إن ترجمة العهد الجديد العربية لم تظهر إلا بعد ظهور الإسلام، هو قول عامة النقاد في منتصف القرن التاسع عشر".
خامسا:
دعوى التلقي بواسطة:
بنقض دعوى إبطال أمية النبي صلى الله عليه وسلم، ونفي وجود ترجمات عربية للكتاب المقدس، ينسد سبيل الاطلاع المباشر على كتب أهل الكتاب.
فلم يبق بعد ذلك إلا أن يفترض المخالف: أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد تلقى علوم أهل الكتاب عن غيره.
ومسألة تلقي النبي للوحي من البشر: قديمة. وقد رماه بذلك المشركون، وردها عليهم القرآن. قال الله تعالى: وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأو لِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا* قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا الفرقان/ 5-6.
إن غاية ما يطمح إليه المخالف لنا في هذا الباب: هو أن يعرض مجرد احتمالات وافتراضاتٍ محضة، يفترضها، ليست أكثر من تخرصات ظنون كاذبة، في أحسن أحوالها!!
بناء على شذرات تاريخية، لا تثبت أمام النقد التاريخي. أو على أخبار واهية الأسانيد.
وعليه؛ فإننا سنحاكم هذه الاحتمالات لطبيعة حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولحجم المعرفة الواسعة والعلوم الدقيقة التي أتى بها، ولمنهج المحدثين في قبول الأخبار.
ذكر المستشرقون وأذنابهم من المنصرين: احتمالات تلقي النبي صلى الله عليه وسلم العلومَ عن غيره، وسوف نكتفي هنا بعرض أقوى هذه الاحتمالات، ونقدها.
إن احتمال تلقي النبي – صلى الله عليه وسلم - علوم أهل الكتاب قبل البعثة، واحدة من أشهر وجوه الطعن التي يطرحها المنصرون والمستشرقون، ويروجون لها.
فتارة: يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مدرس يَفِد عليه لتلقي علوم أهل الكتاب.
وربما يستدلون بلقاءاتٍ مفترضة، مع بعض علماء أهل الكتاب، لدعم هذا الفرض.
وهذا الافتراض الذي افترضوه، يحتاج إلى أن يجيب عن وجوه من النقد العلمي لأساسه المعرفي، منها:
1- أن زعم وجود مدرس للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لتلقي علوم أهل الكتاب، يقتضي توارد النبي - صلى الله عليه وسلم -عليه مساحة زمنية طويلة. وحياة النبي صلى الله عليه وسلم مختلفة عن حياة أي شخص آخر؛ فحياته حظيت في كل مراحلها بالتأريخ والتوثيق الدقيق، مما يجعل عكوفه على تحصيل علوم أهل الكتاب مدة طويلة تتناسب مع ما جاء به من العلوم = قولا مردودا، بداهة. ولو أن قومه قد علموا ذلك، لذكروا لنا زمان ومكان هذا العكوف، أو حتى اللقاء المزعوم.
2- أن مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم لعلماء اليهود والنصارى، قبل بعثته، لو افترضنا جدلا ثبوت ذلك من أصله= لم تكن لتسمح له بأن يحصل كل تلك العلوم الواسعة والدقيقة؛ لأنه لم يلتق قبل بعثته -كما ورد في السير- سوى بالراهب بحيرى، في ذلك اللقاء العابر جدا، لو ثبت. وورقة بن نوفل.
* أما لقاء النبي صلى الله عليه وسلم – المفترض- بالراهب بحيرى: فقد كان وهو في الثانية عشرة من عمره. وهذه القصة من حيث التوثيق التاريخي: قصة منكرة، كما ذكره الذهبي وغيره من أهل العلم.
ثم هي أيضًا – على فرض ثبوتها - : لا تؤدي إلى ما أراده المنصِّرون؛ لأن هذا اللقاء كان سريعا خاطفا، لا يمكن أن يتعلم فيه المرء شيئا؛ فضلا عن أن يتلقى أمرا عظيما، هائلا، ثقيلا؛ كالوحي الذي جاء به.
* وأما لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بورقة بن نوفل: فلا يصح - في بداهة العقل - الاستدلال به على جعل ورقة معلماً للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن لقاء النبي بورقة إنما كان بعد نزول آيات من القرآن، كما أن ورقة نفسه قد أقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتمنى أن يمتد به العمر لينصُر النبي صلى الله عليه وسلم نصرا مؤزرا. لكنه قد توفى بعد هذه المقابلة بمدة يسيرة.
هذا -فقط- هو كل ما كان من أمر اللقاء بينهما!!
والواقع: أن دعوى تلقى النبي صلى الله عليه وسلم علوم أهل الكتاب، وهو في مكة: دعوى يكذبها موقع مكة الثقافي والعلمي، وصلة هذا المجتمع العربي بعلوم أهل الكتاب.
فلقد كانت النصرانية ضاربة في الوثنية والضلالة والعجرفة، كما يصفها بذلك " إسحاق تيلور".
وقال بيل: "لا توجد حجة قوية لأي مكان للمسيحية في الحجاز، أو في قرب مكة، أو حتى المدينة". فهذه المعرفة السطحية بعلوم أهل الكتاب كيف تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من الوصول إلى تلك المعرفة الدقيقة والواسعة بأخبار أهل الكتاب؟!
سادساً:
لم يبق بعد نقض التلقي المباشر للنبي صلى الله عليه وسلم لعلوم أهل الكتاب، أو الأخذ بواسطة: إلا أن نقر بأنه وحي من الله سبحانه وتعالى لنبيه المصطفى.
وقد احتج القرآن لصالح ربانيته بقصص الأنبياء والأمم الغابرة التي ذكرها:
قال تعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ * وَلَٰكِنَّآ أَنشَأۡنَا قُرُونٗا فَتَطَأو لَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡعُمُرُۚ وَمَا كُنتَ ثَأو يٗا فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ تَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ القصص/ 44-45.
وقال تعالى: تِلۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهَآ إِلَيۡكَۖ مَا كُنتَ تَعۡلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوۡمُكَ مِن قَبۡلِ هَٰذَاۖ فَٱصۡبِرۡۖ إِنَّ ٱلۡعَٰقِبَةَ لِلۡمُتَّقِينَ هود/ 49.
ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ آل عمران/ 44.
ومثل هذه الآيات دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الاخبار هي وحي من الله سبحانه وتعالى.
يقول الإمام أبو جعفر النحاس: " فجعل الله جلّ وعزّ هذا دليلا على نبوته دليلًا على نبوته لقريش؛ لأنه لا يكتب، ولا يخالط أهل الكتاب، ولم يكن بمكة أهل الكتاب؛ فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم" انتهى، من "إعراب القرآن" (3/176).
وهنا نرى أن المعاندين لما أنكروا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وربانية القرآن: عجزوا عن تفسير علم النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار اهل الكتاب وعلومهم؛ فاضطروا إلى الافتراءات الباطلة، ليحجبوا نور الله جل جلاله، عن أبصار الناظرين!!
والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
1. هل القرآن الكريم مقتبس من كتب اليهو د والنصارى؟، سامي عامري (أغلب مادة هذا الرد من هذا الكتاب النفيس).
2. الظاهرة القرآنية، مالك بن نبي.
3. مدخل إلى القرآن الكريم عرض تاريخي وتحليل مقارن، محمد عبد الله دراز.
4. النبأ العظيم، محمد عبد الله دراز
5. السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري
6. دفاع عن القرآن ضد منتقديه، عبدالرحمن بدوي
تعليق