الحمد لله.
أولاً :
لا يخفى أنَّ الشريعةَ جاءت بتحريمِ تصويرِ ورسمِ ونحتِ كل ما فيه روحٌ من خلقِ اللهِ تعالى ، بل جاء التشديدُ والوعيدُ الشديد على من فعل ذلك .
كقوله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ ) رواه البخاري (5950) ومسلم (2109) .
وانظر جواب السؤال رقم (7222) (39806) .
وقد استثنت الشريعة من التحريم : الصور التي يلعب بها الأطفال .
فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت : ( قَدِمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن غَزْوَةِ تَبُوكَ أو خيبر ، وَفِي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ ، فَهَبَّت رِيحٌ ، فَكَشَفَت نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَن بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ ، لُعَب . فَقَالَ : مَا هَذا يَا عَائِشَةُ ؟ قَالَت : بَنَاتِي . وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَه جَنَاحَانِ مِن رِقَاعٍ . فَقَال : مَا هَذَا الذِي أَرَى وَسطَهن ؟ قَالت : فَرَسٌ . قَالَ : وَمَا هَذا الذي عَليه ؟ قَالَت : جَنَاحَانِ . قَالَ : فَرَسٌ لَه جَناحانِ ؟ ! قَالَت : أَمَا سَمِعتَ أَنَّ لِسُلَيمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ ؟ ! قَالَت : فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيتُ نَوَاجِذَه ) . رواه أبو داود (4932) وصححه العراقي في تخريج الإحياء (2/344) والألباني في “صحيح أبو داود” .
قالَ الحافظُ ابنُ حجر في “فتح الباري” (10/527) :
” واستُدلَّ بهذا الحديثِ على جوازِ اتخاذِ صورِ البناتِ واللعب ، من أجلِ لَعِبِ البناتِ بهن ، وخُصَّ ذلك من عمومِ النهي عن اتخاذِ الصور ، وبه جزمَ عياضٌ ، ونقله عن الجمهورِ ، وأنهم أجازوا بيعَ اللعبِ للبناتِ لتدريبهن من صغرِهن على أمرِ بيوتهِن وأولادهن ” انتهى .
وسُئلَ الشيخ ابن عثيمين : ما حكمُ صورِ الكرتونِ التي تخرج في التلفزيون ؟
فأجابَ :
” أمَّا صورُ الكرتونِ التي ذكرتم أنها تخرجُ في التلفزيون :
فإن كانت على شكلِ آدميٍّ : فحكمُ النظرِ فيها محلُّ ترددٍ ، هل يُلحقُ بالصورِ الحقيقية أو لا ؟
والأقربُ أنه لا يُلحَقُ بها .
وإن كانت على شكلِ غيرِ آدمي : فلا بأس بمشاهدتِها ، إذا لم يصحبها أمرٌ منكَرٌ ، من موسيقى أو نحوِها ، ولم تُلهِ عن واجبٍ ” انتهى .
“مجموع الفتاوى” (2/سؤال رقم 333) .
ثانياً :
إن موضوعَ الرسومِ المتحركةِ وأفلام الكرتون من أخطرِ المواضيعِ التربويةِ وأعظمِها ، وذلك للأثرِ الهائلِ الذي تتركهُ تلك الأفلامُ في نفوسِ الناشئةِ من الأطفال ، ولأنها غدت مصدرَ التلقي والتربية الأول في كثير من دولِ العالمِ اليوم .
وفي هذه المرحلةِ يكونُ عقلُ الطفلِ وقلبُهُ كالصفحةِ البيضاء ، لا تمر بها عوارضُ إلا انتقشت عليها وثبتت .
يقولُ ابن القيّم رحمه الله في “تحفة المودود” (240) :
” ومما يحتاجُ إليهِ الطفلُ غايةَ الاحتياج الاعتناء بأمرِ خلْقهِ ، فإنهُ ينشأ على ما عوّدهُ المربي في صغره ، فيصعبُ عليه في كبرهِ تلافي ذلك ، وتصيرُ هذهِ الأخلاق صفاتٍ وهيئاتٍ راسخةً له ، فلو تحرّزَ منها غايةَ التحرزِ فضحته ولا بد يومًا ما ” انتهى .
وهذه بعض الإيجابيات من مشاهدة الطفل لهذه البرامج :
1- تزوّد الطفل بمعلوماتٍ ثقافيةٍ كبيرة وبشكلٍ سهلٍ محبوب : فبعضُ أفلامِ الرسوم المتحركة تُسلِطُ الضوءَ على بيئاتٍ جغرافيةٍ معينة ، والبعضُ الآخر يسلطُ الضوءَ على قضايا علمية – كعمل أجهزةِ جسم الإنسان المختلفة – ، الأمر الذي يُكسِبُ الطفلَ معارفَ متقدمة في مرحلةٍ مبكرة .
2- تنميةُ خيالِ الطفل ، وتغذيةُ قدراتِهِ ، وتنميةُ الخيالِ من أكثر ما يساعدُ على نموّ العقل ، وتهيئتهِ للإبداع ، ويعلّمهُ أساليبَ مبتكرةً ومتعددةً في التفكيرِ والسلوك .
3- تعليم اللغةِ العربيةِ الفصحى والّتي غالباً لا يسمعُها الطفلُ في بيته ولا حتى في مدرسته ، ومن المعلومِ أنّ تقويمَ لسانِ الطفلِ على اللغةِ السليمةِ مقصدٌ من مقاصدِ العلمِ والتربية .
يقولُ ابنُ تيمية في “اقتضاء الصراط المستقيم” (1/207) :
” واعلم أنّ اعتيادَ اللغةِ يؤثرُ في العقلِ والخلقِ والدّين تأثيرًا قويًا بيّنًا ، ويؤثرُ أيضًا في مشابهةِ صدرِ هذه الأمةِ من الصحابةِ والتابعين ، ومشابهتهم تزيدُ العقلَ والدّينَ والخُلُق ، وأيضًا فإنّ نفسَ اللغة العربية من الدّين ، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ ” انتهى .
4- تلبيةُ بعضِ الحاجاتِ والغرائزِ النفسيةِ النافعة : كالرحمة والمودة وبرِّ الوالدين والمنافسة والسعي للنجاح ومواجهة التحديات . . . . وغير ذلك كثير من المعاني الإيجابيةِ التي يُمكنُ غرسُها في ثنايا حلقاتِ أفلامِ الكرتون .
وهناك أيضاً مجموعة من السلبيات المترتبة على مشاهدة هذه البرامج :
1- السلبياتُ المترتبةُ على مشاهدةِ التلفاز بشكلٍ عام ، وهي سلبياتٌ كثيرة ، منها : الإضرارُ بصحةِ العينين ، وتعويد الكسل والخمول ، وتعويد التلقي وعدم المشاركة ، وبذلك تعيقُ النموَّ المعرفيّ الطبيعيّ ، وذلك أنّ العلمَ بالتعلمِ والبحثِ والطلب ، والتلفاز ينتقلُ بالمتابع منَ البحثِ إلى التلقي فقط ، كما أنّ في متابعةِ التلفازِ إضعافًا لروحِ المودةِ بينَ أفرادِ الأسرة ، وذلك حين ينشغلونَ بالمتابعةِ عن تبادلِ الحديثِ مع بعضهم البعض .
يقولُ ابن القيم في معرض الحديث عما يجب على الولي من التربية في “تحفة المودود” (241) :
” ويُجنبهُ الكسلَ والبطالةَ والدعةَ والراحةَ ، بلْ يأْخذهُ بأضدادها ، ولا يُريحهُ إلا بما يجمُ نفسَهُ وبدنه للشغلِ ، فإنّ الكسلَ والبطالةَ عواقبُ سوءٍ ، ومغبةُ ندمٍ ، وللجدّ والتعبِ عواقبُ حميدةٌ ، إمّا في الدنيا ، وإما في العُقبى ، وإمّا فيهما ” انتهى .
2- تقديمُ مفاهيم عقدية وفكرية وعمليّة مخالفة للإسلام : وذلك حين تنغرسُ في بعضِ الأفلام مفاهيمُ الاختلاط والتبرجِ المحرّم ، وبعضُ أفلام الكرتون مثل ما يُعرَف بـِ (توم و جيري) تحوي مفاهيمَ محرفةً عن الآخرة ، والجنة والنار والحساب ، كما أنّ بعضَها يحتوي قصصًا مشوَّهةً للأنبياءِ والرسل ، وبعضُها الآخر يحتوي على سخريةٍ من الإسلامِ والمسلمين ، وأفلامٌ أخرى (مثل ما يعرف بـ البوكيمون) تحوي عقائد لدياناتٍ شرقية وثنية . . . . وغير ذلك كثير , وإن لم تحملْ ما يخالف الإسلام مخالفة ظاهرة ، فهي تحملُ في طيّاتها ثقافة غربيةً غريبةً عن مجتمعاتِنا وديننا .
يقول الدكتور وهبة الزحيلي في “قضية الأحداث” (6) :
” أمّا برامجُ الصغارِ وبعضُ برامجِ الكبار ، فإنها تَبثّ روحَ التربيةِ الغربية ، وتروّجُ التقاليدَ الغربية ، وتُرغّبُ بالحفلات والأنديةِ الغربيةِ ” انتهى .
ومن التّأثر المقيت بهذه الثقافة ، اتخاذ القدوة المثالية الوهمية ، بدلاً من أن يكون القدوة هو الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء الربانيين والمجاهدين ، فتجدُ الأطفالَ يقلّدون (الرجل الخارق Super man) و( الرجل الوطواط Bat man ) و (الرجل العنكبوت SPIDER MAN) ونحو ذلك من الشخصياتِ الوهمية التي لا وجود لها ، فتضيعُ القدوة في خضم القوةِ الخيالية المجردة من الإيمان .
انظر : “وسائل الإعلام والأطفال : وجهة نظر إسلامية” أبو الحسن صادق ، “مقال : أثر الرسوم المتحركة على الأطفال” نزار محمد عثمان .
بعد تبيّن هذه الإيجابيات والسلبيات ، يبدو الموقفُ الشرعيّ بعدَ ذلك واضحًا إن شاءَ الله تعالى ، فكلما وجدت السلبياتُ أكثر اقتربَ الحكمُ إلى التحريمِ أكثر ، وما أمكنَ فيه تجنبُّ هذه السلبيات اقتربَ إلى الجواز ، وهذا يدلنا على ضرورةِ السعي لإيجاد شركاتِ إنتاجٍ لأفلامِ الكرتونِ الإسلاميةِ ، بحيث تُغرَسُ فيها جميعُ الفضائل ، وتُنفَى عنها جميع المضار والرذائل .
والله أعلم .
تعليق