الحمد لله.
أولاً:
لسنا ندري حقيقة المقارنة والمفاضلة بين " حسي " و " معنوي " ، فكيف يقول المجيب إن " اللغة " – وهي شيء معنوي ، ليس بذات – أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم – وهو شيء حسي ، له ذات - ؟ .
وعندما تأملنا وجدنا أن الأمر قد يحتمل صورتين ، واحدة تتعلق بالسائل ، وأخرى تتعلق بالمجيب .
أما التي تتعلق بالمجيب : فهو أنه يحتمل أن " اللغة " تعني : القومية العربية - والظاهر أنهم عرب ، وأن الكلام عن اللغة العربية - ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يعني " الإسلام " ، وهذا الاحتمال يجعل المقارنة والمفاضلة بين شيئين يمكن السؤال والإجابة عنهما .
وأما التي تتعلق بالسائل : فهو أن يكون أراد أن يستفز السائل بالإنكار عليه في تعظيم " لغته " بذِكر شيء معظَّم عند المسلمين ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله إن كانت لغته أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانياً:
إن كان الاحتمال الأول هو الصواب : فإن المجيب وقع في الكفر ، فالقومية العربية دعوى جاهلية تحمل الكفر ، وتطعن في التشريعات الإسلامية ، وتفرِّق بين المسلمين ، وتجمع بينهم وبين غير المسلمين على أساس اللغة العربية ، فالعربي الكافر عندهم أقرب لهم وأحب من المسلم الأعجمي ! وهذا كفر صريح بالإسلام وتشريعاته .
قال شاعر القومية : فخري البارودي :
بلادُ العرب أوطاني من الشام لبغـدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مصرَ فتَطوان
فلا حدٌّ يُباعدنــا ولا دينٌ يُفرِّقنــا
لسانُ الضاد يجمعنا بغسّانٍ وعدنــانِ
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
ما رأيكم في الدعوة إلى القومية التي تعتقد أن الانتساب إلى العنصر ، أو اللغة مقدَّم على الانتساب إلى الدين , وهذه الجماعات تدعي أنها لا تعادي الدين ولكنها تقدم القومية عليه ، ما رأيكم في هذه الدعوى ؟ .
فأجاب :
هذه دعوة جاهلية ، لا يجوز الانتساب إليها ، ولا تشجيع القائمين بها , بل يجب القضاء عليها ؛ لأن الشريعة الإسلامية جاءت بمحاربتها والتنفير منها , وتفنيد شبههم ومزاعمهم والرد عليها بما يوضح الحقيقة لطالبها ؛ لأن الإسلام وحده هو الذي يخلد العروبة لغة ، وأدباً ، وخلقاً , وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على العروبة في لغتها ، وأدبها ، وخلقها , ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز الدعوة إلى الإسلام بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه .
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات دعوة باطلة ، وخطأ عظيم ، ومنكر ظاهر ، وجاهلية نكراء ، وكيد للإسلام وأهله , وذلك لوجوه قد أوضحناها في كتاب مستقل سميته : " نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع " .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 4 / 173 ) .
والكتاب موجود بكامله في " فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 280 – 318 ) .
وقال الشيخ – رحمه الله – أيضاً :
إن من أعظم الظلم ، وأسفه السفه , أن يقارن بين الإسلام وبين القومية العربية , وهل للقومية المجردة من الإسلام من المزايا ما تستحق به أن تجعل في صف الإسلام , وأن يقارن بينها وبينه ؟ لا شك أن هذا من أعظم الهضم للإسلام ، والتنكر لمبادئه ، وتعاليمه الرشيدة , وكيف يليق في عقل عاقل أن يقارن بين قومية لو كان أبو جهل , وعتبة بن ربيعة , وشيبة بن ربيعة وأضرابهم من أعداء الإسلام أحياء لكانوا هم صناديدها وأعظم دعاتها , وبين دين كريم صالح لكل زمان ومكان , دعاته وأنصاره هم : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر الصديق , وعمر ابن الخطاب , وعثمان بن عفان , وعلي بن أبي طالب , وغيرهم من الصحابة ، صناديد الإسلام ، وحماته الأبطال , ومن سلك سبيلهم من الأخيار؟ لا يستسيغ المقارنة بين قومية هذا شأنها , وهؤلاء رجالها ، وبين دين هذا شأنه ، وهؤلاء أنصاره ودعاته , إلا مصاب في عقله , أو مقلد أعمى , أو عدو لدود للإسلام ، ومن جاء به ، وما مثل هؤلاء في هذه المقارنة إلا مثل من قارن بين البعر والدر , أو بين الرسل والشياطين , ومن تأمل هذا المقام من ذوي البصائر , وسبر الحقائق والنتائج : ظهر له أن المقارنة بين القومية والإسلام : أخطر على الإسلام من المقارنة بين ما ذكر آنفا ، ثم كيف تصح المقارنة بين قومية غاية من مات عليها النار , وبين دين غاية من مات عليه الفوز بجوار الرب الكريم , في دار الكرامة والمقام الأمين ؟ .
اللهم اهدنا وقومنا سواء السبيل , إنك على كل شيء قدير .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 1 / 320 ، 321 ) .
وهذان جوابان نافعان من الشيخ رحمه الله حول المقارنة بين القومية العربية والإسلام ، وفي الجواب الثاني حكم من قارن بينهما ، وفيه ذكر أنه " مصابٌ في عقله " ، أو " مقلِّد أعمى " ، أو " عدو لدود للإسلام " .
فمن كان يجهل حال القومية : فقد يكون معذوراً ، ومن جهل حال الإسلام واعتقد أن غيره من الأديان والنظم والمبادئ خير منه : فلا شك في كفره .
ثالثاً:
وإن كان الاحتمال الثاني هو الواقع : فإن السائل يكون أساء في ذِكر النبي صلى الله عليه وسلم في المفاضلة ، والمجيب قد أساء أكثر بإجابته السخيفة ، والتي هي كفر في ذاتها ؛ لأن فيها انتقاصاً من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإساءة له .
والواجب على المسلم أن يعظِّم نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن ينصره ، ويؤيده ، وأن يمنعه من كل ما يؤذيه ، كما يجب عليه توقيره وتكريمه ، والله تعالى ذكر ذلك أنه من صفات المؤمنين ، وذكره ثانياً آمراً به المسلمين .
قال تعالى : ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الأعراف/من الآية 157 .
وقال تعالى : ( إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً . لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً ) الفتح/ 8 ، 9 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
و من ذلك : أن الله أمر بتعزيره فقال : ( وتعزِّروه وتوقروه )الفتح/ 9 ، والتعزير : اسم جامع لنصره ، وتأييده ، ومنعه من كل ما يؤذيه .
والتوقير : اسم جامع لكل ما فيه سكينة ، وطمأنينة ، من الإجلال والإكرام ، وأن يعامَل من التشريف ، والتكريم ، والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حدِّ الوقار .
" الصارم المسلول " ( 1 / 425 ) .
وليس تعظيمه وتوقيره مختصاً بحياته صلى الله عليه وسلم ، بل وبعد مماته .
قال القاضي عياض – رحمه الله - :
واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، وتوقيره ، وتعظيمه : لازم ، كما كان حال حياته ، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم ، وذكر حديثه ، وسنته ، وسماع اسمه ، وسيرته ، ومعاملة آله ، وعترته ، وتعظيم أهل بيته ، وصحابته .
" الشفا في أحوال المصطفى " ( 2 / 40 ) .
وقد نهى الله تبارك وتعالى المسلمين أن ينادوا النبي صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد كما يفعلونه مع بعضهم ، وهذا من أوجه تعظيمه صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )النور/63 .
قال الضحاك عن ابن عباس : كانوا يقولون : يا محمد ، يا أبا القاسم ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ؛ إعظامًا لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ، قال : فقالوا : يا رسول الله ، يا نبي الله . وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير .
وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يُبَجَّل ، وأن يعظَّم ، وأن يسوَّد .
وقال مقاتل بن حَيَّان : لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه : يا محمد ، ولا تقولوا : يا ابن عبد الله ، ولكن شَرّفوه فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله .
وقال مالك عن زيد بن أسلم : أمرهم الله أن يشرِّفوه .
هذا قول ، وهو الظاهر من السياق ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ) البقرة/104 ، وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) إلى قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) الحجرات/2-5 .
فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، والكلام معه ، وعنده ، كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته .
" تفسير ابن كثير " ( 6 / 88 ، 89 ) .
وقد توعَّد الله تعالى مَن رفع صوته على نبيه بذهاب عمله وبطلانه .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) الحجرات/2 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :
وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابه ، أي : لا يرفع المخاطِب له صوته معه فوق صوته ، ولا يجهر له بالقول ، بل يغض الصوت ، ويخاطبه بأدب ولين ، وتعظيم وتكريم ، وإجلال وإعظام ، ولا يكون الرسول كأحدهم ، بل يميزوه في خطابهم ، كما تميز عن غيره في وجوب حقه على الأمة ، ووجوب الإيمان به ، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به ، فإن في عدم القيام بذلك محذوراً ، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر ، كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب ، وقبول الأعمال .
" تفسير السعدي " ( ص 799 ) .
وقد أجمع أهل العلم على وجوب قتل من سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو عابه ، أو انتقص من قدره صلى الله عليه وسلم ، سواء بالتصريح أو الإشارة .
قال القاضي عِياض – رحمه الله - :
اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع مَن سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عابه ، أو ألحق به نقصاً في نفسه ، أو نسَبِه ، أو دينه ، أو خَصْلة من خصاله ، أو عَرَّض به ، أو شَبَّهه بشيء على طريق السبِّ له ، أو الازدراء عليه ، أو التصغير لشأنه ، أو الغض منه ، أو العيب له : فهو سابٌّ له ، والحكم فيه حكم السابِّ ، يقتل ، وكذلك يُعاقَب بالقتل مَن لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو دعا عليه ، أو تَمنَّى مَضَرَّة له ، أو نسَب إليه ما لا يَليق بمَنْصِبِه على طريق الذم ، أو عبث في جهته العزيزة بسَخَف من الكلام ، وهَجْر ، ومُنْكَر من القول وزور ، أو عَيَّره بشيء جرى له من البلاء والمِحْنة ، أو نَقَصَ من قَدْره ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه .
وقد انعقد على هذا إجماع العلماء ، وأئمة الفتوى ، من لَدُنْ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى يومنا ، وإلى أن يَرِثَ الله الأرضَ ومن عليها .
" الشفا بتعريف حقوق المصطفى " ( 2 / 214 ) .
رابعاً:
الأقوال والأفعال التي تخرج صاحبها من الإسلام يستوي فيها حكم الجاد والمازح والمستهزئ. قال الله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) التوبة:65-66
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" و هذا نص في أن الاستهزاء بالله و بآياته و برسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى و قد دلت هذه الآية على أن كل من تنقص رسول الله صلى الله عليه و سلم جادا أو هازلا فقد كفر "
" الصارم المسلول" (1/37)
فانصح – أيها السائل الكريم – هذا الرجل ، وخوفه من الله عز وجل ، وبين له شناعة ما قال ، وان دين الله تعالى ليس محلاً للجدال والخصام ، أو السخرية والاستهزاء ، وأعلمه ما يجب عليه من التوبة الصادقة إلى الله عز وجل ، والندم على ما بدر منه والاستكثار من الخيرات ، عسى الله أن يهديه ويعفو عنه .
والله أعلم
تعليق