الحمد لله.
ثانيا :
وجه الجمع بين ذلك وبين قوله تعالى : ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ
نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) القصص/ 46 .
وقوله تعالى : ( بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ
مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) السجدة/ 3 .
وقوله عز وجل : (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) سبأ/ 44 .
وجه الجمع بين هذه الآيات : أن قوله : ( مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ
) ، وقوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) يقصد به العرب
خاصة ، أو قريشا خاصة ؛ فإن الله تعالى لم يرسل فيهم رسولا قبل محمد صلى الله عليه
وسلم .
وأما قوله تعالى : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) فاطر /24 ،
ونحوه : فالمراد : كل الأمم ؛ فكل الأمم قد سبقت فيها النذر ، وجاءتها الرسل ، إلا
هذه الأمة الأمية ، قريش ، أو العرب عامة ، لم يأتهم نذير قبل مجيء النبي صلى الله
عليه وسلم ، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا كغيرهم من الأمم التي خلت
فيها النذر .
قال قتادة : " يعني قريشا ، كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله
عليه وسلم " انتهى من " الجامع لأحكام القرآن " (14 /84) .
وقال ابن كثير رحمه الله :
" قَوْلُهُ تَعَالَى: ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ
غَافِلُونَ ) يَعْنِي بِهِمُ : الْعَرَبَ ؛ فَإِنَّهُ مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ
مِنْ قَبْلِهِ " انتهى من " تفسير ابن كثير" (6/ 563) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
ما معنى قوله تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ) وقوله تعالى: ( وَمَا
أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) وأيضاً الآية: ( وَإِنْ مِنْ
أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ ) ؟
فأجاب:
" هذه الآيات لا تتعارض ؛ فإن الله تعالى بعث في كل أمة رسولاً ؛ كما قال تعالى (
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ
عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) ...
فلابد لكل أمة من رسول ، ولكل أمة من نذير ينذرها عذاب الله عز وجل ويبشرها برحمته
لمن أطاع .
وأما قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) فالمراد
: أن الله تعالى لم يرسل إلى العرب نذيراً قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ليس
من العرب رسول إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو دعوة إبراهيم وإسماعيل ، حيث قال
إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .
فلم يبعث الله عز وجل نذيراً إلى العرب إلا محمداً صلى الله عليه وسلم ، بعثه الله
تعالى نذيراً ، ولكافة الناس ، كما قال الله تعالى ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) " انتهى مختصرا من " فتاوى نور على
الدرب للعثيمين " (5/ 2) بترقيم الشاملة .
وينظر : " زاد المسير" (6 /333) ، " فتح القدير" (4 /252) ، " تفسير السعدي " (ص 617) .
واختار ابن جزي رحمه الله :
أن المراد بنفي النذارة عنه : هم الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة
، من العرب ، فلا ينفي ذلك أن يكون من سبق منهم : قد جاءتهم النذر .
قال ابن جزي رحمه الله :
" ( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ) معناه : أن الله قد بعث إلى
كل أمة نبياً يقيم عليهم الحجة .
فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله ( لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم
مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ؟
فالجواب : أنهم لم يأتهم نذير معاصر لهم ، فلا يعارض ذلك من تقدم قبل عصرهم .
وأيضاً : فإن المراد بقوله : ( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ )
: أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست ببدع فلا ينبغي أن تنكر ، لأن الله أرسله
كما أرسل من قبله ، والمراد بقوله : ( لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن
نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) أنهم محتاجون إلى الإنذار ، لكونهم لم يتقدم من ينذرهم ،
فاختلف سياق الكلام ، فلا تعارض بينهما " .
انتهى من " التسهيل " ( ص 1635) .
والله تعالى أعلم .