الحمد لله.
يمثل هذا الحديث واحدا من النماذج السامية التي قدمتها لنا السيرة النبوية في
الانتصار لحقوق المرأة ، والدفاع عن المستضعفين ، كما أوصى بذلك عليه الصلاة
والسلام في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ
الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ ) رواه أحمد (2/439) وحسنه النووي في "رياض الصالحين"
(146) ، ومحققو مسند أحمد ، والشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1015) .
يقول المناوي رحمه الله :
" بأن تعاملوهما برفق وشفقة ، ولا تكلفوهما ما لا يطيقانه ، ولا تقصروا في حقهما
الواجب والمندوب ، وَوَصَفَهُمَا بالضعف استعطافا وزيادة في التحذير والتنفير ، فإن
الإنسان كلما كان أضعف كانت عناية الله به أتم ، وانتقامه من ظالمه أشد " انتهى من
" فيض القدير "(1/166) .
ولذلك كانت النساء إذا تعرضن للضرب لجأن لمن يدافع عنهن ، ويصون كرامتهن ، وهو بيت
النبوة الكريم ، الذي كان منارة نور وهداية وصلاح للعالم كله ، كما وقع في هذا
الحديث الوارد في السؤال .
والضرب الذي تعرضت له هذه المرأة – واسمها تميمة بنت وهب كما في " الطبقات الكبرى "
لابن سعد (8/457) - حتى اخضر جلدها يعد مثالا للعادات السيئة التي ما زال بعض
الرجال يمارسونها في أخلاقهم مع زوجاتهم ، وعذر عبد الرحمن بن الزَّبِير في ذلك هو
– فيما يبدو من الرواية – نشوز زوجته عنه ، وترفعها عن الحياة معه ، ويبدو أيضا
أنها كانت راغبة في زوجها الأول الذي طلقها ثلاثا ، ولكن هذا العذر لا يجيز الضرب
المؤذي بحال من الأحوال ، بل كان الخيار أمامه رضي الله عنه بتخييرها بين المخالعة
وبين استمرار الحياة وتجاوز المشاكل ، ولا يحتاج الأمر ضربا ولا إيذاء ، فضلا عن
الضرب المبرح المؤدي إلى خضرة الجلد .
ولذلك أبدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها امتعاضها من سلوك عبد الرحمن بن الزبير
رضي الله عنه ، ولم تجد ما يبرر ضربه واستطالته على زوجته تميمة ، وتعجبت من هذا
النوع من المعاملة فقالت : ( مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا يَلْقَى المُؤْمِنَاتُ ؟
لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا ) ، تعني بذلك أن ما لقيته هذه المرأة
شديد بالقدر الذي يبعث على التعجب والاستنكار ، وكأنها رضي الله عنها تدعو النبي
صلى الله عليه وسلم إلى الانتصار لها كما قال الراوي : والنساء ينصر بعضهن بعضا .
ثم لم تكمل الرواية مصير هذه الشكاية ، شكاية الضرب وما حكم به النبي صلى الله عليه
وسلم بينهما ، واتجهت عناية الرواة إلى ذكر اشتراط الجماع الحقيقي في الزواج الثاني
، كي تحل المرأة لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثا ، كما قال تعالى في كتابه الكريم :
( فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ
ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) البقرة/230 .
بل لم نجد – بعد استقراء روايات الحديث – أي نقل عن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم
لأي من الزوجين في شأن دعوى وقوع المعاشرة بينهما من عدمها ، ليعلم إن كانت تميمة
رجعت إلى زوجها رفاعة أم لم ترجع إليه ، كل ذلك يؤكد على ملحظ مهم عند قراءة
الأحاديث النبوية ، وأحداث السيرة ، وهو أن الرواة كثيرا ما يغفلون فصولا مهمة في
الحكاية ، لأسباب عديدة ، أهمها أن مقصدهم الأساس هو نقل الحروف التي نطق بها النبي
صلى الله عليه وسلم في القضية الأساسية ، وأما ما رافق الحكاية من أحداث أخرى ، فقد
يقصر الراوي أو يكسل عن حكايتها .
وحديث عكرمة هنا بابه الأساسي ، ومقصده الذي ورد فيه هو تأكيد اشتراط " الجماع "
بين الزوجين كي تحل للزوج الأول بعد الطلاق ، وعدم الاكتفاء بالعقد المجرد ، وأما
ما يتعلق بمسألة "الضرب" ، وما ترتب عليها : فلم تحفل به صفحات السيرة وكتب العلماء
.
وليس هذا بالشأن الخطير ،
فقد وردت الأحاديث الكثيرة التي تنهى عن أذية المسلم لأخيه المسلم ، وأذية الزوجات
خاصة ، وسبق أن استشهدنا في موقعنا بالعديد من هذه الأحاديث النبوية المهمة ، ولعل
استقرار منع إلحاق التبريح بالزوجة في قلوب الصحابة ونفوسهم ، كان السبب في تركيزهم
في هذه الرواية على كلمة النبي صلى الله عليه وسلم في " اشتراط المعاشرة الزوجية "،
والتقصير عما عداها .
للمزيد يرجى الاطلاع على الأرقام الآتية : (41199)
، (148036) ، (149359)
، (150762) ، (185240)
، (219574) .
والله أعلم .