الحمد لله.
أولا:
لا شك أن هذا الموظف قد أخطأ خطأ بينا في طريقته التي ذكرها في إدارة عمله، خاصة مع ما ذكر فيها من أن قد يغيب يوما ، أو أياما كاملة ، بعذر ، وبغير عذر!!
ولا شك أن العمل سوف يتأثر بغياب "شخصه"، حتى وإن جمع البيانات، وإن قام بحضور مفاجئ، وإن اجتهد في الإدارة ؛ فإن ذلك كله لا يغني عن وجوده شيئا ، ولا يسد مسده ، إذا كان حاضرا في مكان عمله ، بصفة دائمة، ثم هو لا يجلس في مكتبه الخاص ، إن كان يريد المتابعة الحقيقية لعمله ، وموظفيه ، بل يمر عليهم ، ويرى جهدهم ، ومتابعتهم للمراجعين ، وقضاءهم لحاجات الناس.
ثم هو فوق ذلك ، أجير خاص، مأمور بأن يحضر في مكان عمله في وقت الدوام الرسمي المعروف في وظيفته.
وينظر: جواب السؤال رقم : (126121) ، ورقم : (85055) .
ثانيا:
من فضل الله على هذا الموظف أن أدرك خطأه السابق، وأنه تاب إلى الله عز وجل من ذلك التهاون، وندم على ما كان يفعله منه، قبل ألا تمكنه هذه التوبة، ولا الرجوع عن ذلك .
وأما ما يلزمه فيما سبق من عمل، وراتب قبضه عن هذه السنوات الماضية، ففي هذا تفصيل:
فإن كان يفعل ذلك جاهلا بحرمته، ويتأول أن المدار في حل ما يأخذه من راتب: إنما هو على إنجازه للعمل، ومتابعته ، ونحو ذلك مما ذكره ، وكان مع ذلك يعامل موظفيه والناس معه ، بنفس تلك الطريقة ، فلا يتهاون في نفسه ، ويشدد على الناس، ولا يستحل لنفسه ، ويحرم على الناس، فيقال له :
لا شك أن هذا التأويل خطأ ، كما بينا ، لكنه يعذر به فيما مضى ، ولا يلزمه شيء في الراتب الذي قبضه قبل ذلك ، لا سيما ما أنفقه منه ، ولم يبق في يده ؛ لقول الله تعالى : (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة/275 .
ولأن التوبة تهدم ما قبلها ، كما أن الإسلام يهدم ما قبله .
وإن كان الذي ينبغي له أن يتصدق بما بقي في يده من الأموال التي كسبها في المدة السابقة، أو يرده إلى جهة عمله ، فهذا أحوط له ، وأبرأ لذمته .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيمن كسب شيئا من الربا المحرم، ثم تاب :
" وأما [المسلم] فله ثلاثة أحوال:
• تارةً يعتقدُ حِلَّ بعضِ الأنواع باجتهادٍ أو تقليد.
• وتارةً يُعامِل بجهلٍ، ولا يعلم أن ذلك ربًا محرَّم.
• وتارةً يقبض مع علمه بأن ذلك محرَّم.
• أما الأول والثاني: ففيه قولان، إذا تبيَّن له فيما بعدُ أن ذلك ربًا محرَّم:
قيل: يردُّ ما قبضَ، كالغاصب.
وقيل: لا يردُّه، وهو الأصح؛ لأنه كان يعتقد أن ذلك حلالٌ.
والكلام فيما إذا كان مختلفًا فيه، مثل الحيل الربوية.
فإذا كان الكافر: إذا تاب يُغفر له ما استحلَّه، ويُباح له ما قبضَه؛ فالمسلم المتأول: إذا تاب يُغفَر له ما استحلَّه، ويُباح له ما قبضَه؛ لأن المسلم إذا تاب أَوْلى أن يُغفَر له، إن كان قد أخذ بأحد قولي العلماء في حِلِّ ذلك، فهو في تأويله أعذَرُ من الكافر في تأويله.".
ثم قال شيخ الإسلام بعد كلام:
" .. ويدل على أن ذلك ثابت في حق المسلم ما بعد هذا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، فأمرهم بترك ما بقي، ولم يأمرهم بردِّ ما قبضوه؛ فدلَّ على أنه لهم، مع قوله: فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، والله يقبل التوبة عن عباده.
فإذا قيل: هذا مختص بالكافرين؟
قيل: ليس في القرآن ما يدلُّ على ذلك؛ إنما قال: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ، وهذا يتناول المسلم بطريق الأولى. وعائشة قد أدخلت فيه المسلمَ، في قصة زيد بن أرقم لما قالت لأم ولده: بئسَ ما شريتِ، وبئسَ ما اشتريتِ، أخبري زيدًا أنه قد حَبِطَ جهادُه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن يتوب.
فقالت: يا أم المؤمنين، أرأيتِ إن لم آخذ إلا رأسَ مالي؟ فقالت عائشة: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ..، والتوبة تتناول المسلم العاصي، كما تتناول الكافر.
ولا خلاف أنه لو عامله بربا يحرم بالإجماع، لم يقبض منه شيئًا، ثم تاب: أن له رأس ماله، فالآية تناولته، وقد قال فيها: اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، ولم يأمر بردِّ المقبوض، بل قال قبل ذلك: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ.
وهذا وإن كان ملعونًا على ما أكله وأوكله، فإذا تاب غُفِر له.
ثم المقبوض قد يكون اتَّجر فيه وتقلب، وقد يكون أَكَلَه ولم يبقَ منه شيء، وقد يكون باقيًا:
فإن كان قد ذهب، وجعل دينًا عليه: كان في ذلك ضرر عظيم، وكان هذا منفِّرًا عن التوبة، وهذا الغريم يكفيه إحسانًا إليه إسقاطُه ما بقي في ذمته وهو برضاه أعطاه، وكلاهما ملعون.. " انتهى، وينظر البحث بطوله في "جامع المسائل" (1/271) وما بعدها .
وأما من اكتسب هذا المال المحرم، عالما بتحريمه عليه ، غير متأول لأخذه على وجه يعذر به : فإنه لا يحل له إمساكه ، بل يرده إلى مالكه ، إن كان قد غصبه منه ، أو استولى عليه منه بغير طيب نفسه .
وإن كان قد أنفق المال المحرم لعينه، كالمسروق ونحوه : فإنه يبقى في ذمته دينا لصاحبه، إلى أن يتمكن من رده إليه، أو استحلاله منه.
وأما المال المحرم لكسبه، مثل الرشوة، وثمن الخمر، ونحو ذلك، إذا اكتسبه عالما بتحريمه:
فإنه يتخلص منه بإنفاقه في وجوه الخير، إذا كان عين المال باقيا في يده .
وإن لم يكن عين المال باقيا: فمن أهل العلم من يقول إنه يبقى دينا في ذمته ، إلى أن يتخلص منه .
والأقرب: أنه إذا تاب، ولم يبق هذا المال في يده : فإنه تكفيه التوبة، ولا يلزمه شيء بعدها .
وينظر جواب السؤال رقم (219679) ورقم (78289) ورقم (101418)
والله أعلم.