الحمد لله.
أولًا:
يقول العلامة محمد الخضر حسين، رحمه الله: «ضرب الله الأمثالَ في كتابه العزيز، دلَّ على هذا الكتابُ نفسُه، فقال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]، وقال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43]، وقال تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27].
.. وللأمثال أثر بليغ في تلقي الدعوة بالقبول، لذلك أحرزت بين الأساليب التي يتحراها القرآن في هدايته منزلةً سامية.
... ويُضرب المثل لتقرير حال الممثَّل في النفس؛ حيث يكون الممثَّل به أوضح من الممثَّل، أو يكون للنفس سابقةُ أُلْفَةٍ وائتناس به"، انتهى.
انظر: "موسوعة الأعمال الكاملة" للإمام محمد الخضر حسين: (2/ 1/ 30 - 44)، بتصرف.
ثانيًا:
قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28].
يقول ابن كثير، رحمه الله، في بيان وجه ضرب المثل في الآية الكريمة:
«هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له، ملك له، كما كانوا في تلبيتهم يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
فقال تعالى: ضرب لكم مثلا من أنفسكم أي: تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم.
هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء؛ أي: لا يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله، فهو، وهو: فيه على السواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم أي: تخافون أن يقاسموكم الأموال.
قال أبو مجلز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك، وليس له ذاك؛ كذلك الله لا شريك له.
والمعنى: أن أحدكم يأنف من ذلك؛ فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه.
وهذا كقوله تعالى: ويجعلون لله ما يكرهون [النحل: 62]؛ أي: من البنات، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات الله، وقد كان أحدهم إذا بُشِّر بالأنثى: ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب؛ فهم يأنفون من البنات، وجعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم، فهذا أغلظ الكفر.
وهكذا في هذا المقام: جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه، وأحدهم يأبى غاية الإباء، ويأنف غاية الأنفة من ذلك؛ أن يكون عبده شريكَه في ماله، يساويه فيه، ولو شاء لقاسمه عليه. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
... ولما كان التنبيه بهذا المثل، على براءته تعالى ونزاهته، بطريق الأولى والأحرى، قال: كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون"، انتهى.
"تفسير ابن كثير" (6/ 312 - 313)، بتصرف.
وقال ابن القيم، رحمه الله في بيان ما في هذ المثل المضروب من نكتة، وحجة لازمة على المشركين، مبطلة لشركهم:
"قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28]، وهذا دليل قياسي؛ احتجَّ الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده ومُلْكِه شركاء، فأقام عليهم حجةً يعرفون صحتها من نفوسهم، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم.
ومن أبلغ الحِجاج: أن يأخذ الإنسانَ من نفسه، ويحتجَّ عليه بما هو في نفسه، مقرَّرٌ عندها، معلومٌ لها!!
فقال: هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاءُ في المال والأهل؟
أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم، فأنتم وهم في ذلك سواء؛ تخافون أن يقاسموكم أموالكم، ويشاطروكم إياها، ويستأثرون ببعضها عليكم، كما يخافُ الشريك شريكه؟
وقال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم، كما يرث بعضُكم بعضًا.
والمعنى: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبدُه شريكَه في ماله وأهله، حتى يساويه في التصرف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرَّف فيه، كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار؟
فإذا لم ترضَوا ذلك لأنفسكم، فلِمَ عدلتم بي مِن خلقي، مَن هو مملوك لي؟!
فإن كان هذا الحكم باطلًا في فِطَركم وعقولكم، مع أنه جائز عليكم، ممكن في حقِّكم؛ إذ ليس عبيدكم ملكًا لكم حقيقةً، وإنما هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، وأنتم وهم عباد لي= فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقِّي، مع أنَّ مَن جعلتموهم لي شركاءَ عبيدي وملكي وخلقي؟! فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول"، انتهى.
"أعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/ 322 - 323).
ثالثًا:
تبين مما سبق أن هذا المثل الذي ضربه الله جل جلاله للمشركين، وآلهتهم، ليس فيه من تشبيه الله تعالى بخلقه شيء، ولا تمثيله، جل جلاله لنفسه بالمشركين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا؛ إنما فيه ما يعرف عند العلماء بـ"قياس الأولى"؛ كما سبق بيانه من كلام أهل العلم.
قال "شيخ الإسلام ابن تيمية": "فلهذا كانت طريقة القرآن - وهي طريقة السلف والائمة - أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده، بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى، فإن الله له المثل الأعلى"، انتهى.
"درء تعارض العقل والنقل" (7/ 323).
والمثل في الآية الكريمة كالمثل في آيات كثيرة ذكرها الله في كتابه، "كقوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا [الزمر: 29]، فهذا مثلٌ ضرَبه يتضمَّنُ قياسَ الأولى في حقِّه، يعني: إذا كان المملوكُ فيكم له مُلَّاكٌ مشتركون فيه، وهم متنازعون، ومملوكٌ آخرُ له مالكٌ واحد، فهل يكونُ هذا وهذا سواءً؟! فإذا كان هذا ليس عندكم كمن له ربٌّ واحدٌ ومالكٌ واحد، فكيف ترضون أن تجعلوا لأنفسكم آلهةً متعدِّدةً تجعلونها شركاءَ لله، تحبُّونها كما تحبُّونه، وتخافونها كما تخافونه، وترجونها كما ترجونه؟!"، انتهى.
"مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (2/ 1052).
والمراد: أنكم، أيها العبيد الضعفاء، لا تقبلون أن يكون غلمانكم ومماليككم، شركاء لكم في أموالكم؛ فكيف تزعمون أن آلهتكم، وأوثانكم، شركاء لله في خلقه، يستحقون العبادة على الناس، كما يستحقها رب العالمين؟!! والله جل جلاله أغنى الشركاء عن الشرك، وملكه لكم ولأوثانكم ولجميع ما في الكون أعظم، وأتم، وأجلى وأظهر.
إذا لم تقبلوا لكم شريكا من عبيدكم ؛ فكان الواجب عليكم أن تنزهوا ربكم عن الشرك والشركاء، وتعلموا أن ملكه أجل وأعظم، وأبعد من أن يكون له شريك من خلقه؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا!!
فهون عليك أيها السائل الكريم، فليس في الآيات ولا في الأمثال ما يدعو إلى الدهشة والحيرة التي وصفتها، من حيث إشكاله، ولا عدم تفهمه؛ إنما فيه ما يحير الألبابَ عظمته، وسطوع نوره، وجلاء بيانه، وجلال سلطانه!!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: "والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يُستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أَوْلَى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أَوْلَى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أَوْلَى أن يُنزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم".
"التدمرية" (ص50).
والله أعلم.