الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

عشر أدلة من المنقول والمعقول على أن القرآن كلام الله غير مخلوق

السؤال

أرجو أن تفيدوني في كيفية التعامل مع شبه المبتدعة ، وخاصة بدعة القول بخلق القرآن ، فأرجو منكم أن تفصلوا في الرد على شبههم ، مع ذكر كتب أهل العلم الثقات الذين توسعوا في الرد على أهل البدع في هذه المسألة .

الجواب

الحمد لله.

الرد على البدعة ينطلق أول ما ينطلق من تأصيل السنة ، وتقعيد مبادئ العقيدة ، وبناء العلم على المنهجية الصحيحة المنطلقة من الكتاب والسنة .
وهذا البناء لا يتم من خلال الفتاوى المتفرقة ، أو القراءات المتناثرة ، بل عبر طلب منهجي للعلم ، ودراسة مؤصلة يقضي فيها الطالب سنوات عمره في البحث والحفظ والفهم والتحصيل ، وحينئذ يمكنه فهم الشبهات ، وفهم كلام العلماء ، وتحليل المزالق التي أودت إلى مثل هذه الإشكالات العقدية الكبرى .
ونحن هنا نورد نموذجا مصغرا لما يمكن أن يبنى عليه تأصيل كون القرآن كلام الله ، ونفي شبهة الخلق عنه ، وذلك باختصار وإيجاز ، ننقله عن إحدى الدراسات المختصة ، ومنه تتعرف على قدرٍ يسير مما يمكن أن تناقش به المسائل العقدية ، ومدى سعتها ودقتها وحاجتها إلى البحث والتفتيش .
فنقول :
إنه يمكن الاستدلال بعشرة أدلة على أن القرآن الكريم كلام الله غير مخلوق ، وهذه الأدلة هي :
الدليل الأول :
قال الله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )الأعراف/ 54.
والاحتجاج بهذه الآية من وجهين :
الأول : أنه تعالى فرَّق بين الخلق والأمر ، وهما صفتان من صفاته ، أضافهما إلى نفسه ، أما الخلق ففعله ، وأما الأمر فقوله ، والأصل في المتعاطفين التغاير إلا إذا قامت القرينة على عدم إرادة ذلك ، وهنا قد قامت القرائن على توكيد الفرق بينهما ، ومنها الوجه الآتي .
والثاني : أن الخلق إنما يكون بالأمر ، كما قال تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس/ 82 .
فقوله تعالى : ( كن ) هو أمره ، فلو كان مخلوقا لاحتاج خلقه إلى أمر ، والأمر إلى أمر ، إلى ما لا نهاية ، وهذا باطل .
وقد احتج الإمام أحمد رحمه الله على الجهمية المعتزلة بهذه الآية .
قال رحمه الله :
" قلت : قال الله : ( ألا له الخلق والأمر ) ففرق بين الخلق والأمر " رواه حنبل في " المحنة " (ص53).
وقال لهم :
" قال الله : ( أتى أمر الله ...) [النحل: 1] فأمره كلامه واستطاعته ليس بمخلوق ، فلا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض " رواه حنبل في " المحنة " (ص/54).
وقال فيما كتبه للمتوكل حين سأله عن مسألة القرآن :
" وقد قال الله تعالى : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ )التوبة/ 6 ، وقال : ( ألا له الخلق والأمر ) ، فأخبر بالخلق ، ثم قال : ( والأمر ) ، فأخبر أن الأمر غير مخلوق " انتهى. رواه صالح ابنه في " المحنة " (روايته ص: 120 – 121).
وقد سبق الإمام أحمد إلى هذا الاحتجاج شيخه الإمام سفيان بن عيينة الهلالي الحافظ الثقة الحجة ، فقال رحمه الله :
" قال الله عز وجل : ( ألا له الخلق والأمر ) فالخلق خلق الله تبارك وتعالى ، والأمر القرآن " رواه الآجري في " الشريعة " (ص: 80) بسند جيد عنه .
الدليل الثاني :
قال تعالى : ( الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ )الرحمن/ 1 – 3 .
ففرَّق تعالى بين علمه وخلقه ، فالقرآن علمه ، والإنسان خلقه ، وعلمه تعالى غير مخلوق .
قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ )البقرة/ 120.
فسمى الله تعالى القرآن علمًا ، إذ هو الذي جاءه من ربه ؟ وهو الذي علمه الله تعالى إياه صلى الله عليه وسلم ، وعلمه تعالى غير مخلوق ، إذ لو كان مخلوقا لاتصف تعالى بضده قبل الخلق ، تعالى الله عن ذلك وتنزه وتقدس .
وبهذا احتج الإمام أحمد رحمه الله ، حيث قال في حكاية مناظرته للجهمية في مجلس المعتصم :
" قال لي عبد الرحمن القزاز : كان الله ولا قرآن . قلت له : فكان الله ولا علم ! فأمسك ، ولو زعم أن الله كان ولا علم لكفر بالله ". رواه حنبل في " المحنة " (ص: 45).
وقيل له رحمه الله :
قوم يقولون : إذا قال الرجل : كلام الله ليس بمخلوق ، يقولون : من إمامك في هذا ؟ ومن أين قلت : ليس بمخلوق ؟
قال : " الحجة قول الله تبارك وتعالى : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم )، فما جاءه غير القرآن ".
وقال رحمه الله :
" القرآن علم من علم الله ، فمن زعم أن علم الله مخلوق فهو كافر" رواه ابن هانئ في " المسائل " (2/ 153، 154).
الدليل الثالث :
قال تعالى : ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا )الكهف/ 109.
وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )لقمان/ 27.
فأخبر تعالى - وقوله الحق - أن كلماته غير متناهية ، فلو أن البحار التي خلق الله كانت مدادا تكتب به ، والشجر الذي خلق الله أقلاما تخط به ، لنفد مداد البحور ، ولفنيت الأقلام ، ولم تفن كلمات الله .
وإنما في هذه الإبانة عن عظمة كلامه تعالى ، وأنه وصفه وعلمه ، وهذا لا يقاس بالكلام المخلوق الفاني ، إذ لو كان مخلوقا لفني من قبل أن يفنى بحر من البحور ، ولكن الله تعالى إنما كتب الفناء على المخلوق لا على نفسه وصفته .
الدليل الرابع :
أسماء الله تعالى في القرآن ، كـ ( الله ، الرحمن ، الرحيم ، السميع ، العليم ، الغفور ، الكريم ...) وغيرها من أسمائه الحسنى ، وهي من كلامه ، إذ هو الذي سمى بها نفسه ، بألفاظها ومعانيها .
وقد ساوى الله تعالى بين تسبيح نفسه وتسبيح أسمائه ، فقال تعالى : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) الأعلى/ 1، وساوى تعالى بين دعائه بنفسه ودعائه بأسمائه ، فقال : ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا )الأعراف/180، وكذلك ساوى تعالى بين ذكره بنفسه وذكره بأسمائه ، فقال : ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا )الإنسان/25 .
وهذا التسبيح والدعاء والذكر إن كان يقع لمخلوق كان كفرا بالله .
فإن قيل : إن كلامه تعالى مخلوق .
كانت أسماؤه داخلة في ذلك ، ومن زعم ذلك فقد كفر لما ذكرنا ؛ ولأن معنى ذلك أن الله تعالى لم تكن له الأسماء الحسنى قبل خلق كلامه ، ولكان الحالف باسم من أسمائه مشركا لأنه حلف بمخلوق ، والمخلوق غير الخالق .
وبهذه الحجة احتج جماعة من السلف والأئمة على كون القرآن غير مخلوق ، منهم :
الإمام الحجة سفيان بن سعيد الثوري . قال : " من قال : إن ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ ) مخلوق ، فهو كافر " أخرجه عبد الله في " السنة " رقم : (13) وسنده جيد .
ويقول الإمام الشافعي :
" من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة ؛ لأن اسم الله غير مخلوق ، ومن حلف بالكعبة ، أو بالصفا والمروة ، فليس عليه الكفارة ؛ لأنه مخلوق ، وذاك غير مخلوق "
أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص: 193) بإسناد صحيح .
ويقول أحمد بن حنبل :
" أسماء الله في القرآن ، والقرآن من علم الله ، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر ، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر " رواه ابنه صالح في " المحنة " (ص: 52، 66 – 67).
الدليل الخامس :
أخبر تعالى عن تنزيله منه وإضافته إليه ، كما قال : ( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )السجدة/ 2 ، وقال : ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) الأنعام/114، وقال : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) النحل/ 102 ، ولم يضف شيئا مما أنزله إلى نفسه غير كلامه ، مما دل على الاختصاص بمعنى ، فليس هو كإنزال المطر والحديد وغير ذلك ، فإن هذه الأشياء أخبر عن إنزالها ، لكنه لم يضفها إلى نفسه ، بخلاف كلامه تعالى ، والكلام صفة ، والصفة إنما تضاف إلى من اتصف بها لا إلى غيره ، فلو كانت مخلوقة لفارقت الخالق ، ولم تصلح وصفا له ؛ لأنه تعالى غني عن خلقه ، لا يتصف بشيء منه .
الدليل السادس :
عن خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ قالت : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ ) رواه مسلم (2708).
ولو كانت كلماته مخلوقة لكانت الاستعاذة بها شركا ؛ لأنها استعاذة بمخلوق ، ومن المعلوم أن الاستعاذة بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته شرك ، فكيف يصح أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ما هو شرك ظاهر ، وهو الذي جاءهم بالتوحيد الخالص !
فدل هذا على أن كلمات الله تعالى غير مخلوقة .
قال نعيم بن حماد : " لا يستعاذ بالمخلوق ، ولا بكلام العباد والجن والإنس والملائكة ".
وقال البخاري عقبه : " وفي هذا دليل أن كلام الله غير مخلوق ، وأن سواه خلق " ينظر " خلق أفعال العباد " (ص: 143).
الدليل السابع :
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه ) حديث حسن ، أخرجه عثمان الدارمي في " الرد على الجهمية " رقم : (287، 340) ، واللالكائي رقم : (557).
تضمن هذا الحديث إثبات عقيدة السلف ( القرآن كلام الله غير مخلوق ) وذلك من وجهين :
الأول : التفريق بين كلام الله وما سواه من الكلام ، والكلام إما كلام الله الذي هو صفته ، أو الكلام المخلوق الذي هو من خلق الله ، فأضاف ما كان صفة لله إلى الله ، وعمم ما سواه ، ليشمل كل كلام سوى ما أضافه إلى الله ، ولو كان الجميع مخلوقا لما كانت هناك حاجة إلى التفريق .
والثاني : جعل الفرق بين كلام الله وكلام غيره ، كالفرق بين ذات الله وذات غيره ، فجعل شأن كلامه وصفته ، من شأن ذاته وصفتها ، كما أن كلام المخلوق وصفته ، هو مناسب وملائم لذات المخلوق وصفتها .
وقد احتج بهذا الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في " الرد على الجهمية " (ص: 162 – 163) ، فقال بعدما ذكر الأحاديث في هذا المعنى :
" ففي هذه الأحاديث بيان أن القرآن غير مخلوق ؛ لأنه ليس شيء من المخلوقين من التفاوت في فضل ما بينهما ، كما بين الله وبين خلقه في الفضل ؛ لأن فضل ما بين المخلوقين يستدرك ، ولا يستدرك فضل الله على خلقه ، ولا يحصيه أحد ، وكذلك فضل كلامه على كلام المخلوقين ، ولو كان مخلوقا لم يكن فضل ما بينه وبين سائر الكلام ، كفضل الله على خلقه ، ولا كعشر عشر جزء من ألف ألف جزء ، ولا قريبا فافهموه ، فإنه ليس كمثله شيء , فليس ككلامه كلام ، ولن يؤتى بمثله أبدا " انتهى.
الدليل الثامن :
من المعقول الصريح : أن كلام الله إن كان مخلوقا ، فلا يخلو من أحد حالين :
الأولى : أن يكون مخلوقا قائمًا بذات الله .
والثانية : أن يكون منفصلا عن الله بائنا عنه .
وكلا الحالين باطل ، بل كفر شنيع .
أما الأولى فيلزم منها أن يقوم المخلوق بالخالق ، وهو باطل في قول أهل السنة ، وعامة أهل البدع ، فإن الله تعالى مستغن عن خلقه من جميع الوجوه .
وأما الثانية فيلزم تعطيل صفة الكلام للباري تعالى ، إذ أن الصفة إنما تقوم بالموصوف - كما سبق تقريره - لا تقوم بسواه ، فإن قامت بغير الموصوف كانت وصفا لمن قامت به ، وهذا معناه أن الرب تعالى غير متكلم ، وهو كفر بيِّن ، كما بينا الدلالة عليه .
الدليل التاسع :
علمت أن الصفة لا تقوم بنفسها ، فإن كانت صفة للخالق قامت به ، وإن كانت صفة للمخلوق قامت به ولا بد ، فالحركة ، والسكون ، والقيام ، والقعود ، والقدرة ، والإرادة ، والعلم ، والحياة ، وغيرها من الصفات ، إن أضيفت لشيء كانت وصفا له ، وهي تابعة لمن قامت به ، فهذه صفات تضاف للمخلوق ، فهي صفات له حيث أضيفت له ، ومنها ما يضاف إلى الخالق ، كالقدرة والإرادة والعلم والحياة وغير ذلك ، فهي صفات له حيث أضيفت له ، وحيث أضيفت للمخلوق فهي مخلوقة ، وحيث أضيفت للخالق فهي غير مخلوقة .
فصفة الكلام كغيرها من الصفات ، لا بد أن تقوم بمحل ، فإذا قامت بمحل كانت صفة لذلك المحل ، لا صفة لغيره ، فإن هي أضيفت إلى الخالق تعالى فهي صفته ، وإن أضيفت إلى غيره فهي صفة لذلك الغير ، وصفة الخالق غير مخلوقة كنفسه ، وصفة المخلوق مخلوقة كنفسه .
فلما أضاف الله لنفسه كلاما ، ووصف نفسه به ، كان كلامه غير مخلوق ؛ لأنه تابع لنفسه ، ونفسه تعالى غير مخلوقة ، والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات .
فإن قيل : هو مخلوق .
قلنا : إذا يتنزه الله عن الاتصاف بمخلوق ، وأنتم تنزهونه تعالى بزعمكم عن قيام الحوادث به ، فحيث نزهتم ربكم تعالى عن ذلك ، فإنه يلزمكم أن لا تضيفوا إليه كلاما ، وبهذا تكذبون السمع والعقل الشاهدين على أن لله تعالى صفة الكلام .
لكنهم أبوا الإقرار بأن كلام الله تعالى غير مخلوق بأدهى مما سبق من الباطل , فقالوا : نثبت أن الله متكلم بكلام قائم في غيره ، فكلم الله تعالى موسى بكلام مخلوق قائم بالشجرة ، لا به تعالى ، فنحن نزهناه عن قيام الحوادث به .
قلنا : جعلتم الكلام إذا صفة للمحل الذي قام به ، ويلزم ، على قولكم ، أن يكون كلام الشجرة ، فكانت الشجرة بهذا هي القائلة لموسى : ( يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )، فانتفى حينئذ الفرق بين قول الشجرة ، وقول فرعون اللعين : ( أنا ربكم الأعلى ) ؛ لأن كلام الشجرة صفتها لا صفة الله ، وكلام فرعون صفته ، وكل ادعى الربوبية ، فلم يكن موسى إذا محقا في إنكاره قول فرعون ، وقبوله قول الشجرة !!
فتأمل رحمك الله لهذا الكفر الصراح ، الذي أوقع أهله فيه الابتداع المشين ، وعدم الرضا والتسليم لحقائق التنزيل ، واستبدال الوحي الشريف بزبالات الأذهان التي تصرفها الأهواء كيف شاءت .
ولقد كانت هذه الحجة العقلية مما احتج به الإمام أحمد رحمه الله على الجهمية المعتزلة حين ناظرهم بحضرة المعتصم ، قال رحمه الله :
" وهذه قصة موسى ، قال الله في كتابه حكاه عن نفسه : ( وكلم الله موسى ) فأثبت الله الكلام لموسى كرامة منه لموسى ، ثم قال بعد كلامه له ( تكليما ) ؛ تأكيدا للكلام ، قال الله تعالى : يا موسى ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا ) ، وتنكرون هذا ، فتكون هذه الياء تَرِد على غير الله ، ويكون مخلوق يدعي الربوبية ؟! ألا هو الله عز وجل" رواه حنبل في " المحنة " (ص: 52).
الدليل العاشر :
من كلام أئمة السلف في إثبات هذه العقيدة :
يقول عمرو بن في دينار - من خيار أئمة التابعين -:
" أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة ، يقولون : الله الخالق ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، منه خرج ، وإليه يعود " .
وقال عبد الله بن نافع : كان مالك يقول :
" القرآن كلام الله " ويستفظع قول من يقول : القرآن مخلوق " رواه صالح بن أحمد في " المحنة " (ص: 66) بسند صحيح عنه .
وقال الربيع بن سليمان صاحب الشافعي وتلميذه ، حاكيًا المناظرة التي جرت بينه وبين حفص الفرد في القرآن :
فسأل الشافعي ، فاحتج عليه الشافعي ، وطالت فيه المناظرة ، فأقام الشافعي الحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وكفَّر حفصا الفرد . قال الربيع : فلقيت حفصا الفرد في المجلس بعد ، فقال : أراد الشافعي قتلي . رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص: 194 – 195) وسنده صحيح .
وقال ابن أبي حاتم :
" سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، وما يعتقدان من ذلك ؟
فقالا :
" أدركنا العلماء في جميع الأمصار : حجازا ، وعراقا ، وشاما ، ويمنا ، فكان من مذهبهم : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته ".
أخرجه ابن الطبري في " السنة " (1/ 176) بسند صحيح .
وقد ساق الإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي في كتابه العظيم " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " : القول بذلك عن خمس مئة وخمسين نفسا من علماء الأمة وسلفها ، كلهم يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق ، ومن قال : مخلوق ، فهو كافر .
قال رحمه الله :
" فهؤلاء خمس مئة وخمسون نفسا أو أكثر ، من التابعين ، وأتباع التابعين ، والأئمة المرضيين ، سوى الصحابة الخيرين ، على اختلاف الأعصار ، ومضي السنين والأعوام ، وفيهم نحو من مئة إمام ، ممن أخذ الناس بقولهم ، وتدينوا بمذاهبهم ، ولو اشتغلت بنقل قول المحدثين لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة " انتهى من " السنة " (493).
باختصار، وتصرف يسير، من كتاب " العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية " (ص: 121-147) .
وينظر للتوسع في ذلك أيضا : المجلد الثاني عشر من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : "القرآن كلام الله" ، و"مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم .
وينظر مقالا مفيدا حول هذه المسألة ، بعنوان : " لمَ كان القول بخلق القرآن كفرًا ؟ والكلام النفسي؟" ، للشيخ عمرو بسيوني ، على هذا الرابط :

 

http://taseel.com/articles/2626.

 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب