الحمد لله.
قال الله تعالى : (إنما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) التوبة/37 .
وقد اختلف أهل العلم في المراد بـ (النسيء) في هذه الآية على عدة أقوال أشهرها:
الأول : أنهم كانوا يبدلون بعض الأشهر الحرم بغيرها من الأشهر ، فيحرمونها بدلها ، ويحلون ما أرادوا تحليله من الأشهر الحرم إذا احتاجوا إلى ذلك ، ولكن لا يزيدون في عدد الأشهر الهلالية شيئا ، فكانوا يحلون المحرم ، فيستحلون القتال فيه؛ لطول مدة التحريم عليهم بتوالي ثلاثة أشهر محرمة (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم) ، ثم يحرمون صفر مكانه ، فكأنهم يقترضونه ثم يوفونه .
وهذه أصح الصور وأشهرها وأكثرها موافقة لمعنى الآية كما نص على ذلك جماعة من السلف ، وهو اختيار ابن كثير وغيره من المحققين ، وذلك لموافقتها لقوله تعالى : (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) ولقوله : (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله) .
وبهذه الصورة فسر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله النسيء في الآية .
المعنى الثاني : أنهم كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام ويسمونهما صفرين ، ثم يحرمونهما من عام قابل ويسمونهما محرمين. وهذه صفة غريبة في النسيء ، كما يقول الحافظ ابن كثير.
المعنى الثالث : أنهم كانوا يحلون المحرم ، ويبقون صفر أيضاً حلالاً إذا احتاجوا إليه، ويجعلون مكانه ربيعاً . وقد استنكر الإمام أحمد هذا القول .
وأما نوع النسيء الذي كان موجودا في جزيرة العرب وأدركه الإسلام وحرمه ونهى عنه فقد قال ابن كثير رحمه الله : وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب "السيرة" كلامًا جيدًا ومفيدًا حسنًا ، فقال : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله ، وحرم منها ما أحل الله عز وجل ، "القَلمَّس" ، وهو : حذيفة بن عبد مُدْرِكة فُقَيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة بن مدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعدَّ بن عدنان ، ثم قام بعده على ذلك ابنه عَبَّاد ثم من بعد عباد ابنه قَلَع بن عباد ، ثم ابنه أمية بن قلع ، ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام . فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيبًا ، فحرم رجباً ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم عاما ، ويجعل مكانه صفر ، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله ، يعني : ويحرم ما أحل الله .
وكان شاعرهم عمير بن القيس المعروف بجزل الطعان يفتخر بذلك ، ويقول :
لقد علمـت معــد أن قـومــي كرام النـاس إن لهــم كرامــا
ألسنا الناسئــين علـى معـــد شهور الحـل نجعلهــا حرامــا
وأي الناس لـم يــدرك بذكـــر وأي الناس لـم يعــرف لجامــا
انظر : "العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير" (5 / 439) ، و "تفسير ابن كثير" (4/ 144) وما بعدها و (تفسير الطبري 14 / 235)
والله تعالى أعلم .
تعليق