الحمد لله.
أولاً:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ ) قَالَ مُصْعَبٌ : وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ .
رواه مسلم ( 261 ) .
ولا نظن عاقلاً يجعل قص الأظفار من تغيير خلق الله ! فهو إيراد على غير مورد واستشكال لا يخرج من عاقل ، فكيف تقول الشريعة إن قصَّ الأظفار من الفطرة ، وهو واجب أو مستحب ، وفي الوقت نفسه يكون تغييراً لخلق الله وهو محرَّم أو مكروه ؟! فأمور الفطرة الواردة في الحديث تتنوع بين إزالة وإبقاء وتنظيف ؛ فكيف يُجعل إبقاء اللحية في مرتبة إبقاء الأظفار ؛ والأول الفطرة في إبقائها ، والثاني الفطرة في قصها ؟! وقل مثل ذلك – وهو أوضح – في الشارب واللحية ، فالفطرة عدم ترك الشارب يطول حتى يغطي الشفتين بل يقص ويؤخذ منه ، والفطرة في اللحية إبقاؤها وإعفاؤها وعدم التعرض لها بقص فضلاً عن حلق .
وإذا أراد أحد التوضيح زيادة نقول : إن تغيير خلق الله منه ما هو مأذون فيه ، ومنه ما هو ممنوع منه ، فقص الأظفار وحف الشارب وحلق العانة من تغيير خلق الله المأذون فيه ، وإعفاء اللحية والنمص من تغيير خلق الله الممنوع .
قال الشيخ الألباني – رحمه الله - : " ( لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا . وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ) النساء/ 118 ، 119 ، فهذا نص صريح في أن تغيير خلق الله دون إذن منه تعالى : إطاعة لأمر الشيطان وعصيان للرحمن جل جلاله ، فلا جرم أن لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرات خلق الله للحسن ، ولا شك في دخول اللحية للحُسْن في اللعن المذكور ، بجامع الاشتراك في العلة - كما لا يخفى - وإنما قلت " دون إذن من الله تعالى " لكي لا يتوهم أنه يدخل في التغيير المذكور مثل حلق العانة ونحوها مما أذن فيه الشارع بل استحبه أو أوجبه " انتهى من " آداب الزفاف " ( ص 136 ) .
ثانياً:
أما بخصوص قص - أو حلق – شعر صدر الرجل : فليس العلماء في حكمه على شيء واحد ، بل منهم من ذهب إلى أنه من تغيير خلق الله الممنوع ، ومنهم من ذهب إلى أنه من المأذون به لأنه مسكوت عنه ، وما كان هذا حاله فهو على الإباحة ، وهذا هو ما رجحناه في جوابي السؤالين ( 451 ) و ( 45557 ) .
ثالثاً:
وأما هل حلق اللحية من الكبائر أم لا : فقد ذهب بعض العلماء إلى كون حلقها من الكبائر باعتبار مشابهة حالقها للمجوس والمشركين وهو متوعد بما تُوعدوا به من العذاب .
وذهب أكثر أهل العلم إلى حلق اللحية من الصغائر في الأصل ، لكن الذي يخاف على صاحبها ، يلتحق ذنبه بالكبائر ، لإصراره على الحلق ، ومداومته عليه وهذا أصوب .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ – رحمه الله - : " مَن حلق لحيته بعد العلم بالحكم مصرّاً على ذلك : ففعله كبيرة " انتهى من " فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم " ( 2 / 54 ) .
رابعاً:
وأما عدم ذِكر اللحية في حديث الرجل الذي سأل عن شرائع الإسلام : فلأن العرب لم يعرفوا حلق اللحية وإنما عرف ذلك في المجوس فليس ثمة حاجة لذِكر شيء معلوم للسائل ، وهو قد سأل عن الشرائع الفعلية لا عن الدين كله ، وثمة زيادة في الحديث يدخل فيها باقي الواجبات والمندوبات ! فلم يعد في الحديث مجال للاستدلال به على عدم وجوب إعفاء اللحية .
نص الحديث :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَالَ ( تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ ) قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ) .
رواه البخاري ( 1333 ) ومسلم ( 14 ) .
شرحه :
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " قوله ( فإذا هو يسأل عن الإسلام ) أي : عن شرائع الإسلام ، ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإسلام ، وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها ، أو علم أنه إنما يسأل عن الشرائع الفعلية ، أو ذكرها ولم ينقلها الراوي لشهرتها ، وإنما لم يذكر " الحج " إما لأنه لم يكن فرض بعدُ أو الراوي اختصره ، ويؤيد هذا الثاني : ما أخرجه " المصنِّف " – أي : البخاري - في " الصيام " من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل في هذا الحديث قال " فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بشرائع الإسلام " فدخل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات " انتهى من " فتح الباري " ( 1 / 106 ، 107 ) .
وأما حديث جبريل فلم يكن إلا في ذكر أشياء محددة عامة وليس فيه تفاصيل الواجبات والمحرمات ، ولو جاز لأحدٍ أن يهوِّن من أمر اللحية لعدم ذكرها في حديث جبريل فيقال له : أين في حديث جبريل تحريم الزنا والقتل وشرب الخمر وعقوق الوالدين وقطع الرحم والسرقة والغيبة والنميمة ؟! وأين في حديث جبريل وجوب الصدق وبر الوالدين وحجاب الرأس وستر العورة وصلة الأرحام ؟! وبه يُعلم أنه لا مجال لأحدٍ أن يستدل بالحديث على عدم وجوب شيء من أحكام الشرع ؛ لأن الدين ليس هو هذا الحديث فقط وإلا فأين نذهب بما ثبت من نصوص واضحة بيِّنة في وجوب إعفاء اللحية والمنع من مشابهة المجوس بحلقها وقصها ؟! .
وانظر جواب السؤال رقم ( 137251 ) ففيه نقل الإجماع على حرمة حلق اللحية وعلى وجوب إعفائها بما دون القبضة ، ومع عدم ثبوت خلاف في المسألة فلم يبق إلا التشويش على الناس بذِكر ما ليس بدليل وبما لا يصلح تعليلاً لنقض الحكم الشرعي الواضح البيِّن .
خامساً:
قد اجتمع في حلق اللحية عدة مخالفات للشرع مما اقتضى تنبيه الناس على ضرورة الالتزام بإعفائها وتحريم حلقها ، ومن هذه المخالفات :
1. تغيير خلق الله تعالى .
2. مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم الموجب لإعفائها وتوفيرها .
3. التشبه بالمجوس .
4. التشبه بالنساء .
5. المجاهرة بالمعصية .
6. الإصرار على المعصية .
والله أعلم
تعليق